الترند العربي – متابعات
إمكانية استعادة البصر لدى المصابين بـ”كسل العين” لم تعد مجرد فرضية طبية، بل أصبحت اليوم موضع بحث علمي رصين يقدم مقاربة جديدة قد تغيّر شكل التعامل مع واحدة من أكثر اضطرابات الرؤية شيوعًا بين الأطفال والبالغين. فخلال دراسة حديثة أُجريت في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بالولايات المتحدة، قدّم الباحثون طريقة جديدة تقوم على إعادة ضبط الشبكية عبر تخديرها بشكل مؤقت، ما يسمح لها باستعادة قدرتها على إرسال الإشارات العصبية المفقودة وإعادة بناء الاتصال الصحيح مع الدماغ.
تأتي أهمية هذا البحث من أن العلاجات التقليدية لكسل العين تعتمد غالبًا على التدخل المبكر في الطفولة، إذ يعتقد أن الدماغ لا يستجيب لمحاولات العلاج بعد تجاوز سن معينة. غير أن نتائج الدراسة الجديدة تُعيد فتح هذا الملف من زاوية مختلفة، وتطرح سؤالًا مهمًا حول إمكانية علاج البالغين الذين فاتهم العلاج المبكر. وبينما لا يزال الطريق طويلًا قبل اعتماد هذا الأسلوب سريريًا، إلا أن هذه النتائج تمثل خطوة مهمة في مستقبل طب العيون وعلاج الاضطرابات العصبية البصرية.

ما هو كسل العين؟ ولماذا يُعد أخطر مما يبدو؟
يُعرف الغمش، أو “كسل العين”، بأنه ضعف في الرؤية ناتج عن عدم تطوّر المسارات البصرية بين العين والدماغ بشكل صحيح. يحدث ذلك عادة عندما تُصاب إحدى العينين بخلل في القدرة على الإرسال العصبي، فيتجاهل الدماغ مدخلاتها لصالح العين السليمة. المشكلة لا تتعلق بالعين نفسها بل بعملية الاتصال العصبي، وهذا ما يجعل العلاج معقدًا ويستلزم العمل على إعادة بناء هذا الاتصال.
وتشير الأبحاث إلى أن الغمش من أكثر الأسباب المؤدية لفقدان البصر لدى الأطفال، وله تأثيرات دائمة في حال لم يُعالج في الوقت المناسب. وتتراوح أسبابه بين الحول، وعيوب الانكسار غير المعالجة، ووجود عتامات أو مشكلات بنيوية في العين. ونتيجة توقف العين المصابة عن الإرسال الفعال، يتراجع مستوى الرؤية تدريجيًا، وفي غياب التدخل المبكر يصبح العلاج أكثر صعوبة.

طريقة جديدة من MIT: إعادة تشغيل الشبكية عبر التخدير المؤقّت
الدراسة الحديثة تقترح أسلوبًا ثوريًا في التعامل مع العين الكسولة، يعتمد على مبدأ “إعادة التشغيل” الشبكي. يشرح الباحث مارك بيرز من معهد ماساتشوستس أن الفكرة جاءت من دراسة للدوائر العصبية المسؤولة عن الرؤية، إذ وجد الفريق أن تعطيل الشبكية المصابة باستخدام تخدير موضعي يؤدي إلى إعادة تنشيط المسارات العصبية التي كانت متوقفة.
وللتأكد من فعالية هذه الطريقة، قارن العلماء بين عين مصابة تم تعطيلها تخديريًا لفترة قصيرة وبين عين ضابطة لم تتعرض لأي تدخل. وكانت النتائج لافتة؛ إذ ارتفعت الإشارات العصبية الواردة من العين المعالجة بشكل كبير لتتوافق مع العين السليمة. هذه الزيادة في التدفق العصبي تشير إلى أن الشبكية استعادت جزءًا من وظيفتها الطبيعية بعد أن أعادها التخدير إلى “نقطة البداية”.
ونشرت النتائج في دورية “Cell Reports”، مؤكدة أن إعادة ضبط الشبكية بهذه الطريقة قد تشكل مدخلًا لعلاج بالغين يعانون من الغمش منذ سنوات طويلة، وهو أمر لم يكن ممكنًا في السابق بسبب الاعتقاد السائد بأن المرونة العصبية تنخفض بشكل حاد بعد الطفولة.

لماذا قد ينجح هذا الأسلوب لدى البالغين؟
يعتمد هذا الأسلوب على استعادة التوازن العصبي وليس على تدريب العين أو إجبارها على العمل من خلال تغطية العين السليمة كما في العلاجات التقليدية. فالتخدير المؤقت يعطل الإشارات غير الصحيحة التي تمنع الشبكية من التطور، ويمنح الدماغ فرصة لاستقبال تدفق عصبي جديد يعيد بناء الاتصال المفقود. هذه الفكرة تستند إلى مبدأ “اللدونة العصبية”، أي قدرة الجهاز العصبي على إعادة تشكيل نفسه عند توفير الظروف المناسبة.
ويشير الباحثون إلى أن العين الكسولة ليست فاقدة الوظيفة بالكامل، بل غالبًا ما تكون مجمدة في وضعية غير فعّالة. وعندما تُمنح فرصة لاستعادة نشاطها، يمكن للدارات العصبية أن تعود تدريجيًا إلى العمل. وتفتح هذه الملاحظة الباب أمام تحديث بروتوكولات علاجية قد تغيّر مستقبل مئات الآلاف من المرضى.

كسل العين بين العلم والواقع: فجوة تحتاج إلى جسر جديد
ورغم نجاح الدراسة على نماذج مخبرية، إلا أن تطبيقها على البشر يتطلب مراحل طويلة من الاختبارات والتجارب السريرية. فسلامة التخدير الموضعي للشبكية، وآلية الجرعات، ومدى تأثير الإجراء على المدى البعيد، كلها عوامل تحتاج إلى تقييم دقيق قبل الحديث عن اعتماد هذا الأسلوب كعلاج رسمي.
وتظهر أهمية البحث عند النظر إلى محدودية الطرق التقليدية، التي تعتمد في الغالب على تغطية العين السليمة لتحفيز العين الكسولة على العمل. ورغم أن هذه الطريقة ناجحة في الطفولة المبكرة، إلا أنها غير فعالة لدى المراهقين والبالغين. كما أن بعض الحالات لا تستجيب حتى مع التدخل المبكر، ما يجعل من الضروري البحث عن حلول بديلة تذهب إلى أصل المشكلة: الاتصال العصبي بين العين والدماغ.
البحث يعيد فتح باب الأمل لعلاج حالات مستعصية
يرى خبراء طب العيون أن نتائج الدراسة، رغم أنها أولية، تمثل نقلة نوعية لأنها تتناول العلاج من زاوية فسيولوجية عصبية لا من زاوية تدريب عضلي أو بصري. وإذا أثبتت التجارب السريرية فعاليتها، فإن هذا النهج قد يصبح خيارًا علاجيًا جديدًا للمرضى الذين تجاوزوا العمر المثالي للتدخل، وربما يُعيد البصر لعدد كبير ممن فقدوه بسبب الغمش طويل الأمد.
ويشير باحثون إلى أن النتائج قد تشجع على تطوير تقنيات مشابهة تعتمد على التحفيز الكهربائي أو الليزري أو الكيميائي لإعادة ضبط الشبكية. كما قد يُسهم البحث في فهم أعمق لوظائف الشبكية وآليات المرونة العصبية البصرية، مما يفتح بابًا أوسع لعلاج اضطرابات أخرى تتعلق بالإرسال العصبي.
معنى ذلك لطب العيون مستقبلاً
إذا ما ثبتت جدوى هذه الطريقة، فإن مفهوم علاج كسل العين سيتغير كليًا. قد لا يعود العلاج مقصورًا على السنوات الأولى من العمر، وقد يصبح بإمكان البالغين تجاوز فقدان البصر الذي رافقهم طوال حياتهم. كما يمكن أن يؤدي هذا الاتجاه إلى تطوير بروتوكولات علاجية قصيرة المدى تعتمد على جلسات تخدير شبكي متكررة، يليها تدريب بصري لإعادة تكييف العين.
ويُتوقع أن تفتح الدراسة الباب أمام استثمارات بحثية أكبر في هذا المجال، إذ إن أثر العلاج المحتمل لا يقتصر على تحسين الرؤية فقط بل يشمل تحسين جودة الحياة والقدرة على التعلم والعمل والاندماج الاجتماعي، وهي جوانب تُظهر أهمية التقدم العلمي في الطب البصري.
تصريحات الباحثين: خطوة أولى في رحلة طويلة
قال مارك بيرز، الباحث المسؤول عن الدراسة، إن فريقه فوجئ بسرعة استجابة العين المعالجة، إذ بدأت الإشارات العصبية في التحسن فور زوال تأثير التخدير. وأضاف أن الفريق يعمل حاليًا على تحديد الجرعة المثالية ومدة التخدير اللازمة لتحقيق أفضل نتيجة بأقل مخاطر.
وأكد بيرز أن الهدف النهائي هو تطوير علاج معتمد يمكن تطبيقه في العيادات والمراكز الطبية، لكن الانتقال إلى تلك المرحلة يتطلب سنوات من التجارب السريرية لضمان الأمان والفعالية. وأوضح أن الفريق يدرس حاليًا كيفية دمج هذا الأسلوب مع تقنيات أخرى لتحسين النتائج.
آفاق علمية واسعة تتجاوز كسل العين
تشير الدراسة إلى إمكانية استخدام الفكرة نفسها في اضطرابات أخرى تتعلق بالدوائر العصبية البصرية، مثل ضعف العصب البصري الناتج عن إصابات أو أمراض مزمنة. ورغم أن الطريق ما زال في بدايته، إلا أن النتائج الحالية تُظهر أن إعادة تشغيل الشبكية ممكنة، وأن الجهاز العصبي يملك قدرة كامنة على إعادة بناء الاتصال العصبي حتى بعد سنوات طويلة من التوقف.
كما يرى متخصصون أن هذا الإجراء قد يفتح نقاشًا أوسع حول إعادة تنشيط الدارات العصبية في أجزاء أخرى من الجسم، وليس فقط العين، ما يجعل من الاكتشاف خطوة ضمن سياق علمي أكبر يتعلق بمعالجة الاضطرابات العصبية عبر إعادة الضبط الوظيفي.
هل يمكن علاج كسل العين في البالغين؟
تشير الدراسة الجديدة إلى إمكانية تحقيق ذلك عبر إعادة ضبط الشبكية، لكن هذا الأسلوب ما زال تجريبيًا ويحتاج إلى تجارب سريرية.
هل التخدير الشبكي آمن؟
حتى الآن لا توجد بيانات سريرية كافية، والدراسة أُجريت في بيئة مخبرية، ما يعني ضرورة تقييم الأمان بدقة قبل اعتماده طبيًا.
هل يلغي هذا الأسلوب العلاجات التقليدية؟
لا، لكنه قد يضيف خيارًا جديدًا خصوصًا للمرضى الذين لم يستفيدوا من العلاج التقليدي أو تجاوزوا العمر المناسب للتدخل.
متى يمكن أن يتوفر العلاج؟
قد يستغرق الأمر عدة سنوات قبل أن ينتقل من نطاق البحث إلى التطبيق السريري اعتمادًا على نتائج التجارب.
اقرأ أيضًا: دراسة أمريكية: الذكاء الاصطناعي يقلّص زمن استقبال المرضى ستة أيام ويوفّر 8500 ساعة عمل في منظومة طبية واحدة

