ليلٌ لا ينتهي.. ظاهرة فلكية نادرة تجعل أقصى شمال ألاسكا يغرق في ظلامٍ يمتد أسابيع
الترند العربي – متابعات
في مشهد كوني يثير الدهشة كل عام، تعيش مناطق أقصى شمال ألاسكا مرحلة من الظلام الطويل، حيث ينتهي آخر غروب للشمس اليوم ويبدأ فصل الليل القطبي الذي يمتد 53 يومًا كاملًا، دون أن تشرق الشمس حتى السادس عشر من يناير المقبل. وهي ظاهرة تتكرر سنويًا في المناطق الواقعة قرب القطب الشمالي، لكنها تبقى واحدة من أكثر الظواهر الطبيعية التي تثير الفضول، وتثير أسئلة حول تأثيرها على المناخ والطبيعة وسلوك الإنسان.
هذه الظاهرة التي يصفها العلماء بـ “ليالي القطب” ليست مجرد حدث فلكي عابر، بل جزء من دورة كونية دقيقة تتحكم فيها ميلان الأرض حول الشمس وموقع خطوط العرض، لتصنع عالمًا مختلفًا يعيش فيه السكان تحت سماء لا ترى الشروق لأسابيع، بينما تتوهج بالأضواء القطبية في ليالٍ طويلة تُشكل لوحة سماوية نادرة.

توضيح علمي من المسند
أوضح أستاذ المناخ بجامعة القصيم سابقًا، الدكتور عبدالله المسند، أن هذه الظاهرة تحدث اليوم تحديدًا في المناطق الواقعة عند دائرة عرض 70 درجة شمالًا في ألاسكا، حيث تغرب الشمس تمامًا ولن تعود للظهور حتى منتصف يناير، أي بعد 53 يومًا من الغياب الكامل.
وأشار إلى أن جميع المناطق التي تقع على نفس دائرة العرض تشترك في هذه الظاهرة، سواء في ألاسكا أو شمال كندا أو أجزاء من روسيا والنرويج، موضحًا أنها نتيجة مباشرة لميل محور الأرض الذي يجعل أشعة الشمس منحرفة عن تلك المناطق خلال الشتاء، فتغرق في ظلام يمتد أسابيع طويلة.
وبيّن المسند أن هذه الظاهرة ليست استثنائية أو ناتجة عن تغيرات مناخية كما يعتقد البعض، بل هي صفة ثابتة من صفات المناطق القطبية منذ آلاف السنين، وتدل على التوازن الدقيق بين دوران الأرض حول نفسها وحركتها حول الشمس.

ليل لا شروق له.. ماذا يعني ذلك لسكان تلك المناطق؟
في واحدة من أصعب الظواهر المناخية التي يواجهها الإنسان، يعيش سكان ألاسكا تجربة ليلية طويلة قد تؤثر على نومهم، نشاطهم، وحالتهم النفسية. فالشمس تُعد المنظم الأول لإيقاع الإنسان الحيوي، وغيابها لفترات طويلة يمكن أن يصنع تحديات نفسية وجسدية.
ومع ذلك، يتمتع سكان تلك المناطق بخبرة طويلة في التعامل مع الظلام الشتوي، إذ يستخدمون الإضاءة الاصطناعية، ويعتمدون على أنشطة بديلة لتخفيف تأثير غياب الشمس. كما يلجأ كثيرون لمصابيح العلاج الضوئي التي تعزز إنتاج هرمون السيروتونين، وتخفف أعراض الاكتئاب الموسمي.

كيف تحدث الظاهرة؟
لفهم الأمر، يجب النظر إلى ميلان محور الأرض بزاوية 23.4 درجة تقريبًا، وهو السبب الرئيسي في اختلاف الفصول. عندما يميل نصف الكرة الشمالي بعيدًا عن الشمس خلال الشتاء، تصبح أشعتها مائلة جدًا، ولا تصل إلى المناطق القطبية التي تقع فوق خط عرض 66.5 درجة.
وبما أن ألاسكا تقع عند 70 درجة شمالًا، فإن الشمس لا ترتفع فوق الأفق خلال هذه الفترة، ويحدث ما يُعرف بــ “Polar Night” أو الليل القطبي الكامل.

تأثير الظلام على المناخ المحلي
الظلام الطويل يؤدي إلى انخفاض كبير في درجات الحرارة. فغياب الشمس طوال 53 يومًا يعني أن الأرض تفقد حرارتها تدريجيًا، ما يجعل تلك المناطق واحدة من أبرد نقاط العالم خلال أشهر الشتاء.
تنخفض درجات الحرارة في تلك الفترة إلى مستويات قد تصل إلى -40 تحت الصفر، مع نشاط واضح للرياح القطبية الجافة، وتساقط الثلوج الكثيف، وتكوّن طبقات جليدية قد تمتد لعدة أشهر.
كما يُعد الليل القطبي عاملًا رئيسيًا في تكوين ظاهرة “الأورورا” أو الشفق القطبي، حيث تصبح السماء مظلمة بما يكفي لظهور الأصوات الضوئية المدهشة التي تنتج عن اصطدام الجسيمات الشمسية بالغلاف الجوي.
ظاهرة معاكسة تمامًا في الصيف
ولعل المدهش أن هذه المناطق نفسها تعيش الظاهرة المعاكسة تمامًا خلال الصيف، حيث لا تغرب الشمس لمدة 53 يومًا أو أكثر، في ما يُعرف بـ “Sunlight Midnight” أو “شمس منتصف الليل”، التي تبقى فيها الشمس مشرقة طوال 24 ساعة.
وإذا كان الليل الطويل في الشتاء قد يبدو مُرهقًا للبعض، فإن النهار المستمر في الصيف يسبب تحديات مختلفة، أبرزها صعوبة النوم، وارتفاع نشاط الإنسان، واضطراب الساعة البيولوجية.
حياة تحت ضوء الشفق القطبي
على الرغم من الظلام، فإن سكان شمال ألاسكا لا يعيشون في سواد دامس طوال الوقت، بل تتخلل أيامهم ظاهرة ضوء الشفق القطبي، الذي يأسر الأنظار بألوانه الخضراء والبنفسجية والوردية.
ويعد الشتاء وقتًا مثاليًا لالتقاط صور الشفق القطبي، بسبب طول الليل وقلة التلوث الضوئي، مما يجعل هذه المناطق وجهة سياحية لعشاق الفلك والتصوير.
الليل القطبي في الثقافة المحلية
في ثقافة شعوب الإينويت و سكان ألاسكا الأصليين، يشكل الليل الطويل جزءًا من هويتهم ورواياتهم القديمة. فهم ينظرون إليه كفترة هدوء وتأمل وتواصل مع الطبيعة. وتُقام العديد من الفعاليات التراثية خلال هذه الفترة، مثل الحرف التقليدية، وصيد الأسماك عبر الجليد، ورواية القصص الشعبية.
كما تعتمد حياتهم اليومية على أنظمة بيئية دقيقة، تتواءم فيها الحيوانات مع الظلام، مثل الذئاب القطبية، والدببة البيضاء، والفقمات التي تعتمد على سمعها أكثر من بصرها.
اضطرابات الصحة النفسية في الليل القطبي
يواجه عدد من سكان تلك المناطق اضطرابات نفسية موسمية، أبرزها “الاكتئاب الشتوي” الناتج عن قلة التعرض للضوء. وتظهر الأعراض غالبًا في منتصف فترة الظلام، وتشمل:
ضعف التركيز
الشعور بالخمول
تغيرات في الشهية
اضطرابات النوم
انخفاض الطاقة العامة
وتوصي المنظمات الصحية باستخدام مصابيح العلاج الضوئي (Light Therapy Boxes)، والحفاظ على نشاط بدني يومي، وتناول مكملات فيتامين (D) لتعويض نقص التعرض للشمس.
الليل القطبي والسياحة
على الرغم من قسوة الظلام والبرد، تُعد ألاسكا وجهة سياحية خلال هذه الفترة. السياح يتوافدون لرؤية الشفق القطبي، ومشاهدة الحياة البرية، وخوض مغامرات التزلج، وركوب الزلاجات التي تجرها الكلاب.
كما تقدم القرى الصغيرة تجارب سياحية فريدة، مثل السكن في أكواخ خشبية مدفأة، وتناول الأطباق التقليدية، والمشاركة في الاحتفالات الثقافية.
المدارس والعمل أثناء 53 يومًا بلا شروق
تعمل المدارس بشكل طبيعي خلال هذه الفترة، إذ يعتمد الطلاب على الحافلات المجهزة بإضاءة خاصة، بينما يتم تعديل جدول الأنشطة الخارجية.
أما في أماكن العمل، فيبدأ يوم الموظفين غالبًا بعد شروق “الضوء الأزرق القطبي” وهو ضوء خافت يظهر لبضع ساعات ويمنح شعورًا نفسيًا بالراحة رغم غياب الشمس.
تأثير الظاهرة على الحياة البرية
يُلاحظ العلماء تغيّرًا في سلوك كثير من الحيوانات أثناء الليل القطبي. فالدببة تدخل مرحلة البيات الشتوي، بينما تنشط الذئاب والفقمات. وتعيد الطيور القطبية تنظيم هجراتها لتتجنب فترة الظلام الشامل.
ونتيجة لتجمّد البحار، تهاجر بعض الحيوانات البحرية نحو الجنوب، بينما تبقى أخرى في الجليد وتتكيف مع الظروف القاسية.
هل تتأثر خطوط الطيران؟
نعم، فالظلام الشديد وارتفاع العواصف الثلجية قد يسببان تأخيرًا أو تغييرًا في مسارات الطائرات. وتعتمد شركات الطيران على تقنيات متقدمة لتحديد المسارات الآمنة خلال هذه الفترة.
إقبال الباحثين والعلماء
تُعد مناطق شمال ألاسكا مركزًا مهمًا للأبحاث العلمية في الشتاء، حيث يدرس العلماء تأثيرات الظلام الطويل على المناخ، وتكوين الشفق القطبي، وسلوك الحيوانات، إضافة إلى مراقبة التغيرات في طبقات الجليد.
كما تُستخدم هذه المناطق لمحاكاة ظروف الحياة على الكواكب البعيدة، إذ يدرس الباحثون كيف يمكن للبشر التكيف مع بيئات لا تحتوي على دورة ليل ونهار واضحة.
دروس من ظاهرة ألاسكا للعالم
تُقدم هذه الظاهرة دروسًا مهمة عن العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وكيف يمكن للتغيرات الطبيعية أن تُعيد تشكيل نمط الحياة بشكل كامل. ففي الوقت الذي يعيش فيه معظم العالم دوراته اليومية المعتادة، يعيش سكان ألاسكا تجربة فريدة تُظهر مدى تنوع البيئات على كوكب الأرض.
هل الظلام يستمر بلا أي ضوء؟
لا، فهناك ساعات يظهر فيها ضوء خافت يُعرف بـ”الضوء القطبي الأزرق”.
هل تؤثر الظاهرة على صحة الإنسان؟
نعم، قد تسبب اكتئابًا موسميًا واضطراب النوم، لكن يُمكن التعامل معها بالعلاج الضوئي ونمط حياة صحي.
هل ترتبط الظاهرة بتغير المناخ؟
لا، فهي ظاهرة طبيعية ثابتة منذ آلاف السنين نتيجة ميل محور الأرض.
هل تحدث نفس الظاهرة في القطب الجنوبي؟
نعم، لكن في توقيت مختلف بسبب اختلاف مواسم نصفي الكرة الأرضية.
اقرأ أيضًا: ليالي الدرعية.. موسم يربط الماضي بالحاضر ويقدّم تجربة ثقافية تعيد تعريف التراث النجدي


