أن تكون مختلفًا
هلا خباز
هكذا عبرت عن نفسها في إحدى صفحات التواصل الاجتماعي “أتكلم مع نفسي كثيرًا.. أنا لست وحيدة.. أنا غريبة”
مالذي يعنيه أن تشعر بالغربة وأنت محاط بالأهل والأصدقاء، أن تجالسهم بابتسامة باردة وإيمائات تؤكد لهم أنك في عالم آخر.
أن تستمع لأحاديث ونقاشات لاتتوافق مع ماعرفت وما قرأت، مع المنطق والمفروض، وتفضل أن تصمت وأن تبتلع تعابير وجهك لئلا تصطدم بجدار من الموروث.
تقول الممثلة والمخرجة النرويجية ليف أولمن «أُدرك أني رُبّيت لكي أكون كما يريد الآخرون، وهكذا يحبونني ولا يأبهون لوجودي، ذلك الشخص لم يكن أنا. ولكن حين بدأت بتحقيق ذاتي، أضحت الحياة أكثر ثراءً. أريد أن أكتب عن الحب، عن كوني كائنًا بشرًا، عن العزلة… ما أفتش عنه حقًا هو مملكة الطفولة الضائعة»
ومن هنا تنطلق معاناة أغلب المختلفين عن مجتمعاتهم، الصمت.. خوفًا من التصنيف والإقصاء، خوفًا من التصادم مع القطيع، من المسؤولية، من العقاب. أن تخسر الأحباب بلعبة مع أو ضد؟
أو أنهم يجسدون مقول غسان كنفاني حينما قال:” الصمت أفضل من النقاش مع شخص تدرك جيدًا أنه سيتخذ من الاختلاف معك حربًا، لا محاولة فهم”
أن تغدو غريبًا تائهًا تحمل أفكارك مبادئك حبيسة في عقلك، حبيسة خوفك، حبيسة هزائم معرفتك.
لمَ علي أن أكون نسخة من فكر جدي ومبادئ أمي؟ لمَ علي أن أنصاع سمعًا وطاعة مع شيخ الحارة وأستاذ المدرسة الذي امتهن التلقين؟
رأي الأغلبية كما يراه الفيلسوف الدنماركي كيركغارد هو عدو الحقيقة، لأن دهماء الناس يكتفي بممارسة حياتهم بشكل عفوي روتيني دون أن يطرحوا على ذواتهم الأسئلة الوجودية الكبرى.
نحتاج بشدة إلى تعزيز ثقافة الاختلاف، أن نتعلم كيف نفصل بين الفكرة وقائلها، أن نؤمن بأن اختلافنا معهم لا يعني أن نكرههم وأن نجيش الآخر عليهم. أن نتقبل الأخر المختلف عنا دينيًا، فكريًا، سياسيًا.
نحتاج بشدة أن نؤمن بحرية الاختيار، كإيماننا المطلق بلا شأن لي، يقول الشاعر إلياس فرحات ” مادمت محترمًا حقي فأنت أخي أمنت بالله أم أمنت بالحجر”
أجمل المجتمعات هي تلك التي تقوم على التعددية الدينية، الثقافية، الاجتماعية، تعددية توسع مداركنا وقدرتنا على احترام وتقبل تنوع الشخصيات، الأفكار، أسلوب ممارسة الحياة، هي التعددية التي تمكننا من تكوين صداقات مثرية، صداقات قائمة على الانسانية البحتة.
كصداقات الطفولة، صداقات مقاعد الدراسة التي لم نكن نعرف فيها أي شيء عن معتقد ومعتنق زملائنا، صداقات لا نعرف فيها إلا الحب وابتسامة الصباح.
إن قدرتنا على تقبل الناس كما هم، هو الاختبار الحقيقي لقياس وعينا ونضجنا، هو التحدي الحقيقي الذي نواجه فيه انسانيتنا وشعاراتنا التي نكتبها على صفحاتنا الشخصية.
الريتويت لا يعني الموافقة.. ونحن فعلاُ لا نقصد أن نتبنى أفكار الآخر ومبادئه ولكننا نقصد ألا نهاجمه، ألا نقصيه ونقطع حبال الود معه، أن ننصفه، أن ندعه وشأنه.
ولعل أجمل مانختم به مقولة للدكتور عبد الله الغذامي: “الاختلاف سمة العلم حتى إن الذين لايختلفون حقا هم الأميون، وكلما صار المرء عاميًا في مسألة من المسائل مالت نفسه للأخذ بالرأي الواحد القاطع فيها وصار يخاف من تعدد الآراء”