القوطية وحكايات الخيال الشعبية والفانتازيا
تغريد العتيبي
القوطية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحكايات الشعبية والأساطير والخرافات، وليس فقط المرعب منها أو الوحشي، أو قوطي الجوهر، بل أيضًا تتداخل مع حكايات الجان والحوريات والسحر والمشعوذات والمخلوقات الغريبة والأقزام وغيره. لكن عوضًا عن استقائها من ينابيع تلك الحكايات، فالقوطية هنا تضيف مرشحات تعقيد وسوداوية لبعض عناصر تلك الحكايات، لتأخذها من مجرد فانتازيا إلى فانتازيا قوطية.
فالفانتازيا غالبًا وخصوصًا في تلك الحكايات الشعبية تسطر صورًا تم تبسيطها إلى مجردات وحدود، كالجمال والقبح والغنى والفقر والطيبة والشر واللعنة والحرية والشجاعة والجبن، مكونة صورة ثنائية تكاد تكون فقط أبيض أو أسود، كالشخصيات إما طيبة أو شريرة. فالقوطية هنا تتسرب إلى تلك القلاع والغابات ولا تقف عند حدودها بل تحاول وضح تلك الشخصيات تحت مرشحات مغايرة.
في هذا التعدي عودة إلى أصول تلك الحكايات الشعبية التي تم تناقلها شفهيًّا فاختلفت الروايات فيها من ثقافة إلى أخرى ومن مجتمع إلى آخر ومن لسان ولغة إلى أخرى. لكن في الأغلب تلك الحكايات لم تكن إلا ما قيل للتنبيه والتخويف من شيء ما أو فكرة معينة، مثل حكايات ليالي السمر العربية من قصص جان وحيوانات تتحدث وكهوف وكنوز. فإذا ما عدنا إلى بدايات حكاية سندريلا مثلًا نجد أنها قتلت أضحية لتستدعي الجنية، أو نرى الأمير في رواية ينحت قدمها لتساوي مقاس تلك الحذاء، وصدى تلك الدموية يتكرر في الحكايات الأخرى.
لذلك ليس من الغريب حتى في تطور وكتابات تلك القصص وضمها في أدب الطفل أنها لم تفارق تلك السمات والروح القوطية، بل سعت الفانتازيا إلى وضع تلك المرشحات المبسطة والابتعاد عن تلك الدموية والسوداوية القاتمة، بالرغم من تواجدها في نهايات عديد من أصول تلك القصص، قبل تكوُّن نمطية الشائعة في أدب الطفل أو حكايات الخيال «وعاشا في سعادة أبدية».
لكن بالابتعاد عن أدب الطفل قد ظهرت عديد من الحكايات الخيالية للبالغين لما فيها من سوداوية ودموية ورعب رغم جو الفانتازيا الساحر مثلًا، مُبتعدةً عن تلك المرشحات لتصبح فانتازيا قوطية بحتة، مُعتمِدةً أسلوب الحكايات الخيالية لكن آسرة بساطتها في تعقيدات رعب متكرر وعنف ووحوش وغيره. لعلنا نذكر إحدى أهم الروايات التي مزجت تلك الأصناف وهي “العطر: قصة قاتل” للروائي الفرنسي باتريك سوسكيند، صدرت في ثمانينات القرن الماضي، وتحكي قصة من الفانتازيا عن شاب يدعى جان بابتيز غرينول الذي ولد بحاسة شم فائقة، ليتعرف على جوهر من حوله، من خلال رائحة خاصة لكل شخص، فيغرم ببعض الروائح، ليقتل ويستحوذ على تلك الأجساد، ويكوّن رائحة فريدة لنفسه، بحيث لا يمتلك واحدة فيرى نفسه بلا جوهر ولا أصالة.
فعديدٌ من الدراسات القوطية تناولت الرواية في نظريات التذوق والاشمئزاز والبشاعة لجوليا كريستفا، أو في العظمة والرهبة القوطية كصعود جان إلى نوع أعلى من البشر، لامتلاكه جواهر وروائح جميلة في أصل واحد، حيث يقوم بالتعطر به، ويبدأ البشر بالانحناء والخضوع ودراسات الشر والوحشية، بحيث يظهر جان على أنه مجرد هادئ طبيعي لكن تأطير القصة المستوحى من حاكي الفانتازيا والخيال يصفه كمخلوق وليس بشرًا، فهو حظ سوء وعلامة شر، لكل من يمر عليه جان. وهي إحدى الطرق التي تداخلت فيها القوطية مع الفانتازيا كأساليب قصصية، فلا تقص هنا الفتاة المسكينة في قلعة في افتتاحية ذلك التأطير بل مخلوق ولد في مكان وُصِف بأنه «بشع»، ومنها جلب الموت لكل من تتقاطع حياته معه. فكل تلك العناصر أضافت إلى القراءات المتعددة في الجماليات القوطية.
لكنَّ هنالك أيضًا نوعًا يأخذ الفانتازيا والقوطية إلى أبعد منحنيات الرعب والخيال كالفيلم الذي عُدَّ تحفة في عالم السينما وتلك الأصناف من التصويرات والموسيقى والكتابة، وهو “متاهة بان” الذي صدر في 2006، وكُتِب وأُخرِج من قبل المخرج الشهير في هذه الأصناف من الخيال والرعب غويلرمو ديل تورو. صُنف الفيلم كفانتازيا ظلامية وسيريالة سوداء لابتعادها كل البعد عن أيٍّ من فانتازيا أدب الطفل، فقد صُنِّف للبالغين فوق ثماني عشرة سنة، وعدَّه البعض “أليس في بلاد العجائب” للبالغين أو محبي الرعب. حيث يُعد أحد أهم وأشهر وأكثر الأفلام تنوعًا في تصوير الوحوش والعنف. “متاهة بان” تتبع قصة طفلة تعيش مع الجندي السادي الذي تبناها ما بين واقع عنيف من حروب ودموية إلى خيال مظلم، تدخل له عبر بوابة صغيرة، متتبعة جانًّا يخبرها أنها “أميرة” بعيدة كل البعد عن واقعها الأسود، لكن يجب أن تجتاز اختباراتٍ ثلاثة في عالم الخيال لتصبح ملكهم.
الواقع المرير صور العنف بشكل مجسد ودموي، والخيال هنا مأسور من قبل أساطير وحشية، فقد ألهمت العديد من القراءات في صدمات الطفولة والحروب والهروب من الواقع، ومصادر الأمل للأطفال دون أي قوة لتغيير أي شيء في واقعهم، فهناك من قرأ النهاية كما هي، فالخيال أفضل بوحوشه، أو من قرأها بأنها أكثر سوداوية حيث تشير إلى احتمالية العوالم ما بعد الموت، بحيث تظن الطفلة المكلومة أنها قد «انتصرت» في شيء ما ولو كان اختبارًا من جان أو أصبحت ذات قيمة كأميرة، حتى لو في عالم وحشي. من هنا تظهر أهمية هذا الصنف في تصوير تلك الآلام باستعانته بالقوطية وجمالياتها بعيدًا عن نمطيات الخيال المرشحة.
المصدر: سوليوود