عمر غازي

قناع الإيمان

قناع الإيمان

عمر غازي

في كل مجتمع يُقدّس المظهر ويخاف من الصدق، يصبح الدين أكثر ما يُستخدم وأقل ما يُمارس، وحين تتلبّس الأخلاق بالنصوص دون أن تمر بالقلب، يتحول الإيمان إلى أداء، والرحمة إلى خطاب، والصلاة إلى خلفية صوتية على لحن لا يشبهها، وليس غريبًا أن يقول حازم إمام، بتلقائية لاعب يعرف جمهور اللعبة أكثر من جمهور المنبر: “في ناس بتتكلم في الدين، وأول ما يدخلوا في الكورة يبقوا منافقين”، لم يكن يقصد الدين بل القناع، لم يكن يطعن في التدين بل في استغلاله، لم يكن يتحدث عن العقيدة بل عن من يستخدمها ليهاجم لا ليطهّر.

لفهم هذا التناقض، لا يكفي أن نرصد السلوك بل نحتاج إلى النظر في البنية النفسية التي تُنتجه، لأن الذي يُنكر على الناس ما يفعله في السر لا يُعاني من ضعف إرادة بل من ازدواج داخلي يُشرّع له كل شيء. ورغم أن التصنيفات النفسية الرسمية مثل DSM-5 أو ICD-11 لا تجمع هذا النمط تحت اسم واحد، إلا أن علم النفس الحديث يستخدم مصطلحين أساسيين لرسم ملامحه بدقة.

الأول هو النرجسي المتدين (Religious Narcissist)، وهو الشخص الذي يستخدم التدين كوسيلة لصناعة صورة مثالية عن نفسه، بينما يخفي في العمق صفات مثل حب السيطرة واحتقار الآخرين والكذب والغرور الروحي. وقد أظهرت دراسة منشورة في Journal of Personality and Social Psychology عام 2020 أن هذا النمط من الأشخاص يُظهر حساسية عالية تجاه انتقادات الآخرين، لكنه يُبيح لنفسه نقد الجميع باسم الدين دون شعور داخلي بالتناقض، لأن الغاية عنده ليست إصلاح الناس بل رفع مكانته فوقهم.

أما المصطلح الثاني فهو المنافق الأخلاقي (Moral Hypocrite)، وهو الشخص الذي يُعلن التمسك بالمبادئ والقيم لكنه لا يُطبقها على نفسه، بل يستخدمها لمحاكمة الآخرين في الوقت الذي يجد فيه لنفسه أعذارًا مريحة لكل خرق أخلاقي يرتكبه. وقد بيّنت دراسة أعدتها University of Notre Dame عام 2022 أن هذا النمط يرتبط بسلوكيات الازدواجية العاطفية، ويزداد شيوعًا في البيئات المحافظة التي تُكافئ الالتزام الشكلي أكثر مما تُكافئ الصدق الداخلي.

ثم تتفرع من هذين المصطلحين أوصاف فرعية تُضيء التفاصيل، مثل: Sanctimonious person وهو من يظهر التدين ليبدو أفضل من غيره أخلاقيًا، ولعل أوضح الأمثلة أحد الأشخاص الذي افتضح بالغش على الهواء، والسب و(الشخر)، ويصر على أن يضع في تعريف نفسه على منصات التواصل الاجتماعي “مترجم محاضرات ديدات”، وPharisaical وهو من يطبّق النصوص حرفيًا ويتجاهل النية والرحمة، وVirtue Signaler وهو من يتظاهر بالفضيلة فقط لكسب الإعجاب لا ليحيا بها.

الكرة ليست ساحة اختبار للمشاعر فحسب، بل مرآة تكشف ما يُخفى، فحين ترى من يبتسم باسم الدين في الصباح ثم يشتم ويقذف في المساء، لا تتعجب من التناقض بل راقب ما إذا كان يدافع عن قيمه فعلًا أم فقط عن فريقه، فالولاء هنا ليس لله بل للألوان، والغضب ليس غضبًا للحق بل للنتيجة، والمشكلة ليست في الخطأ بل في الجهر به باسم الدين ثم اختراع مخرج له في لحظة الغضب.

هذه الأنماط لا تهدم صورة الدين فقط بل تهشّم الثقة بالمجتمع، لأن الناس حين يرون من يُنكر عليهم ثم يُبيح لنفسه ما حرّمه، لا يفقدون الثقة فيه وحده بل في كل ما يُمثّله، وتكون النتيجة أن يُربط التدين بالزيف، والفضيلة بالنفاق، والالتزام بالتصنّع، وهي خسارة لا تُقاس بنتيجة مباراة بل بانهيار جدار كان يجب أن يُبنى من الصدق لا من الخشب المُلمّع.

ويبقى السؤال: هل نحن فعلاً نعيش ما نُعلن، أم أننا نُعلن فقط ما يُعجب الآخرين؟ وهل نُحاسب أنفسنا حين نتناقض، أم أننا نحاسب الآخرين فقط حين لا يوافقوننا؟ وإذا لم تصمد الأخلاق تحت الضغط، فهل كانت أخلاقًا أصلًا؟

لمزيد من مقالات عمر غازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى