انهيار السياق

عمر غازي
هل يمكن لجملة صحيحة أن تتحول إلى معنى زائف إذا انتُزعت من مقامها، وهل يكفي مقطع مقتطع كي يطيح بسمعة شخص أو مؤسسة حين يُعاد تدويره خارج زمنه ومخاطَبيه، في العالم الرقمي لا يسقط الكلام وحده بل يسقط معه المسرح الذي قيل عليه، إذ تتجاور جماهير لا تعرف بعضها وتتصادم تأويلات لا تملك خرائط مشتركة لما قيل ولماذا قيل.
هذا ما عُرف في دراسات الإعلام بـ”Context Collapse” أي “انهيار السياق”، وهو مصطلح صاغته الباحثة الأمريكية دانا بويد (danah boyd) عام 2011 في دراستها حول استخدام منصة “تويتر” في المجال العام، وأشارت فيه إلى أن الحدود التقليدية بين السياقات الاجتماعية المختلفة – مثل العائلة، والزملاء، والجمهور، والمؤسسات – تذوب على المنصات الرقمية، فيتحدث الإنسان ظانًا أنه يخاطب جمهورًا محددًا بينما تصل كلماته إلى جماهير غير مقصودة تفسرها بمعايير مختلفة تمامًا.
ويرتبط هذا المفهوم بجذور أعمق في علم الاجتماع، فقد أرسى عالم الاجتماع الكندي إرفن جوفمان Erving Goffman في كتابه الشهير “The Presentation of Self in Everyday Life” عام 1956 فكرة أن البشر “يمثلون أدوارًا” مختلفة تبعًا للسياق الاجتماعي الذي يتحدثون فيه، وأن المعنى يتغير بتغير المسرح الذي يُلقى عليه الكلام، لكن المنصات الحديثة دمجت هذه المسارح في شاشة واحدة، فصار الخطاب موجَّهًا في الظاهر إلى أصدقاء أو متابعين محدودين، بينما يصل في الواقع إلى غرباء لا يشتركون في الخلفية ولا في نبرة المزاح ولا في شفرات المهنة.
وحين ينهار السياق تتكفّل الخوارزميات بتوسيع الفوضى، ففي معهد ماساتشوستس للتقنية (MIT) عام 2018 حللت دراسة أكثر من 126 ألف تغريدة وخلصت إلى أن الأخبار المضللة تنتشر أسرع من الأخبار الصحيحة بنحو 6 مرات، لأن إعادة النشر تتغذى على عنصر الإثارة أكثر من تغذيتها على الدقة، وحين تُقتطع الجملة من سياقها تصبح أكثر جاذبية وأقل صحة في آن واحد، فيميل المستخدم إلى مشاركتها قبل التحقق منها لأن المنصة تكافئ السرعة لا الفهم.
وتكشف أبحاث جامعة ييل (2017-2021) أن التعبير عن الغضب الأخلاقي يحصد تفاعلات أعلى بنسبة تصل إلى 20% مقارنة بالصيغ الهادئة، وهو ما يعزز رغبة المستخدم في صياغة المضمون بطريقة مشحونة بدلًا من شرحه بهدوء، بينما أظهرت دراسة في كلية وارتون بجامعة بنسلفانيا عام 2011 أن المشاعر عالية الاستثارة مثل الغضب والدهشة تضاعف قابلية المشاركة، وكأن انهيار السياق يجد في فيسيولوجيا الانفعال وقودًا دائمًا يحوِّل اللبس إلى عاصفة رقمية.
ولا يقتصر أثر الظاهرة على العاطفة، بل يمتد إلى الإدراك نفسه، إذ قدّم الباحث جون سولر John Suler عام 2004 ما عُرف بـ”Online Disinhibition Effect” أي “أثر رفع الكوابح في البيئة الرقمية” موضحًا أن غياب الإشارات الاجتماعية التقليدية يجعل المستخدمين أكثر اندفاعًا وأقل حذرًا في الحكم، بينما ذكّر روبن دنبار Robin Dunbar في أبحاثه بجامعة أوكسفورد منذ التسعينيات بأن عقولنا مُصمَّمة لإدارة دوائر اجتماعية صغيرة لا تتجاوز 150 علاقة تقريبًا، لكن المنصات تضعنا أمام جماهير ضخمة بلا إشارات مسرح تساعدنا على التفرقة في النبرة والمضمون.
هذه الفوضى لا تبقى في المجال العام فحسب، بل تمتد إلى السمعة والقرار، فقد أثبتت تجارب روي بينيكوك وديفيد راند (2019) في جامعات كندية وأمريكية أن مجرد تذكير المستخدمين بضرورة “التفكير في الدقة” قبل مشاركة أي محتوى قلل إعادة نشر المعلومات الخاطئة بنسبة تفوق 30%، كما أن إرفاق السياق الأصلي أو روابط المصدر زاد من حساسية القارئ للمعنى الكامل، ما يعني أن إضافة سطرين يوضحان المكان والزمان والظروف يمكن أن تغيّر سلوك الجمهور إذا صُممت كإشارة بسيطة لا محاضرة ثقيلة.
أما في المؤسسات، فتكلفة انهيار السياق أكبر حين تُسرَّب اقتباسات من رسائل داخلية أو اجتماعات إلى فضاء عام يقرأها بمنطق مختلف، هنا تصبح القاعدة الذهبية أن ترافق أي معلومة خلفيتها: لماذا قيلت، ومتى، ولمن، وما السياق المؤسسي الذي ولدت فيه. وقد أثبتت تجارب ميدانية في شركات تقنية منذ عام 2022 أن تطبيق “سياسة التباطؤ” – أي تأخير نشر التصريحات الحساسة دقائق معدودة للمراجعة – قلل أخطاء الاتصال بنسبة تجاوزت 40% دون أن يؤثر في سرعة العمل.
وعلى مستوى الأفراد لا نحتاج إلى أدوات معقدة، بل إلى ثلاث عادات بسيطة: أن نحاول إعادة صياغة ما فهمناه بلغتنا قبل أن نعلّق عليه، وأن نبحث عن المصدر الأول قبل المشاركة، وأن نتذكر أن الانتشار اللحظي قد يكون خصمًا من رأس مال المصداقية في المدى البعيد، فاسمك سيلتصق بما شاركته حتى لو لم يكن صحيحًا في السياق الذي قيل فيه.
ربما لن تتغير المنصات سريعًا، لكن يمكن للمجتمعات أن تتعلم التكيف معها حين تطالب بتمييزٍ أدق للسياقات وتتبنّى آليات تساعد على بناء الصورة الكاملة قبل الحكم، لأن حماية الحقيقة لا تكون برفع الصوت، بل بإعادة بناء المسرح الذي يسمح لها أن تُفهم كما قيلت.
ويبقى السؤال بلا إجابة، هل نتعلم أن نعيد للجملة مسرحها وزمنها قبل أن نحاكمها، أم نترك أنفسنا أسرى “انهيار السياق” فنعيش في عالمٍ من اقتباسات مبتورة وأحكام سريعة ثم نصدق أننا نعرف الحقيقة ونحن في الحقيقة لا نعرف سوى ظلّها؟.
اقرأ أيضًا: العقل الإخواني