كُتاب الترند العربيعمر غازي

السيد البدوي.. وعباد الأوثان

عمر غازي

هل يليق بعقلٍ يعيش في القرن الحادي والعشرين أن يطلب النجدة من ساكني الأضرحة، وهل يجوز لقلبٍ يعرف معنى التوحيد أن يطوف حول قبر أو يسجد لميت أو يقبّل جدارًا يظنه بابًا إلى الغيب، في مشهد موالد من يسمونهم بالأولياء مثل السيد البدوي وغيره ترى دوائر تدور حول المقام، أيادي تمسّ الحديد وتتمسّح بالستائر، همسات استغاثة ووعود نذر مؤجلة، وكل ذلك يُقدَّم باسم المحبة والبركة بينما هو في جوهره تكرارٌ لذهنية عبادة الوثن حين يُستبدل بالدعاء للحي القيوم استعانةٌ بمن لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا، لا يجدر بعاقل أو متدين أن يبرر هذا المشهد مهما حسنت النيات أو طابت الذكريات أو ازدحم المكان بالمدّاحين والباعة والأنوار، إذ أن الفعل في ذاته منحرف عن أصل العبادة وإن تزيا بلبوس الموروث الشعبي والاحتفال الموسمي والألفة الاجتماعية التي تحفظها الخيام والإنشاد والموائد العامة على هامش المقام.

ليس تحليل هذه الظاهرة سبًّا للناس ولا طعنًا في العواطف، بل محاولة لفهم كيف يجعل الاجتماع الحاشد ما لا يُستساغ فرديًا سلوكًا عاديًا تُدافع عنه الجماعة بوصفه دينًا، هنا يطلّ علم الاجتماع الكلاسيكي، ففي السوربون عام 1912 وصف إميل دوركهايم ما سماه الفوَّرة الجمعية، حيث تولِّد الطقوس المكثفة طاقةً عاطفية تذيب الفرد في crowd واحد وتحوّل الرمز إلى حقيقة مُدرَكة، ثم جاء فيكتور ترنر في أكسفورد عام 1969 ليشرح كيف تخلق مواسم الاحتفالات حالة جماعية اسمها الكوميونيتاس، إحساسًا بالتماهي والمساواة المؤقتة يجعل الاختلاط نشوةً ويجعل الاعتيادي مقدسًا، في هذا المناخ يسهل أن تنزلق الطقوس من زيارةٍ معتبرة إلى ممارساتٍ تُشبه ما تعرفه كل ثقافات الأصنام حين تُنسب القدرة إلى الحجر والضريح والراية لا إلى رب الناس.

وعند مستوى النفس يقدّم علم الإدراك مفاتيح أدق، في أكسفورد مطلع الألفية قدّم هارفي وايتهاوس إطارًا لطرائق التدين يشرح كيف تُرسّخ الطقوس المتكررة ذات الإثارة العالية ذاكرةً هووية تعلو على الفحص، وفي جامعة أوكسفورد أيضًا صاغ جاستن باريت في 2000–2004 فكرة الكشف المفرط للوكالة، ميل العقل لرؤية فاعلٍ وراء كل حدث حين يشتد القلق، بينما بيّن باسكال بوير في 2001 أن الذهن يحب الكيانات الخارقة القريبة من المألوف، فيسهل أن تُسنَد القدرة إلى ولي صالح قريب حاضر في المخيلة والذاكرة، ثم تضيف إلين لانغر من هارفارد عام 1975 درس الوهم بالتحكم، حيث تمنح الطقوس الملموسة إحساسًا زائفًا بالسيطرة على المآلات، لذلك تبدو اللمسة واللفّة والقبلة وسائل نافعة وإن لم يثبت لها أثر في الواقع إلا ما يتركه الاطمئنان المؤقت.

وللوجدان جراحه التي تستدعي هذا السلوك حين يشتدّ الخوف من المرض والفقر والمصائر، في أريزونا وكنساس منذ 1990 طوّر جرينبرغ وسولومون وبيشچينسكي نظرية إدارة الرعب، مفادها أن تذكير الإنسان بفناء حياته يدفعه للتشبث برموزه المقدسة وتعظيم طقوس الهوية، وفي 1999 قدّم كينيث بارجامنت مفهوم التقديس، كيف يرتفع الشيء من عادي إلى مقدس فيتحول الحديد والقماش إلى حجاب نفساني يمنح صاحبه عزاءً ومعنى، وهذه آليات نفسية مفهومة لا تبرّر الفعل في ميزان الشرع، لكنها تفسر إصرار الناس عليه حين يغيب التعليم الديني الرصين وتضعف مؤسسات الرعاية التي تُقدّم العلاج الحقيقي بدل السلوى الرمزية.

ويحضر الاقتصاد السياسي للمولد بوصفه سوقًا للرموز، فالمال يتدفق إلى دوائر خدمة ونذر وتجارات صغيرة، وتشتغل شبكات محلية على تدوير قصة البركة كسلعة معنوية ذات عائد مادي واجتماعي، وقد بيّن ريتشارد سوسِس في 2003 عبر دراسات الإشارات المكلفة أن الطقوس الباهظة تمنح أصحابها مصداقية داخل الجماعة ولو لم تُنتج نفعًا موضوعيًا، ويغدو الصمت الرسمي أحيانًا سياسة ضبط اجتماعي غير معلنة، إذ يُترك المولد لتفريغ التوتر واستعراض الانتماء الشعبي بشرط ألا يمسّ مركز السلطة، هنا تتغذى العادات على الطلب والعرض معًا، وتترسخ الخرافة لأنها مربحة ثقافيًا واقتصاديًا في المدى القصير ولو كانت مُجهِضة لعقل التوحيد في المدى الطويل.

يبقى أن المعيار الشرعي والعقلي واضح، زيارة الأموات تذكرة وعبرة ودعاءٌ لهم لا بهم، ولا طواف ولا سجود ولا استغاثة ولا نذر عند قبر ولا تعليق رجاء على حجر أو سياج، هذا مما أجمع عليه تراث أهل العلم يوم كان العلم علمًا والزيارة زيارةً لا عبادة، فمن أحبّ وليًا فلْيحبّ طريقه إلى الله علماً وعدلاً ورحمة، أما أن تُرفع الحواجز بين العبد وربه باسم الوسائط فهذا قلبٌ لمعنى العبادة مهما رقّ القول وازدحم المكان بالذاكرين.

الخروج من هذا النفق يحتاج إلى طبقات متكاملة، تعليم ديني يشرح فقه الزيارة وحدود التبرك بلغةٍ تحترم العاطفة ولا تُساوم على التوحيد، حضورٌ مجتمعي يحوّل المولد من سوقٍ للخرافة إلى احتفال ثقافي وخدمي، خدمات صحية ونفسية ميدانية تُنصِت لآلام الناس فلا يهرعون إلى الضريح طلبًا لوهم السيطرة، ضبط بلدي يرفع عن المقام كل ما يحرّض على الانحراف من شعارات وملصقات وأساليب استدرار، وخطابٌ عام يستبدل القصص الكرامية المتداولة ببيانٍ عملي عن معنى الدعاء وكرامة الإنسان حين يطرق الباب الأعلى بلا وساطة ولا طواف.

القضية في جوهرها ليست حربًا على محبة الأولياء ولا على ذاكرة المدن، بل حربٌ على وثنيةٍ مقنّعة تسللت إلى طقوسنا فصارت تُسمى تقليدًا وهي تشبه الجاهلية في صريح معناها، من أحبّ البدوي فليحلّ ضيوفه ويُطعم الفقراء ويُعين المحتاجين ويحيي العلم الذي عاش له، أما أن يُسند للميت ما لا يليق إلا بالحي الذي لا يموت فذلك عدوان على العقل والدين معًا وإن تحصّن بحشود المواسم وأناشيد الطبول.

ويبقى السؤال بلا إجابة، هل نملك شجاعة ردّ الطواف إلى الكعبة والسجود إلى رب الكعبة والدعاء إلى السميع القريب مع حفظ الود لأهل الصلاح أحياءً وأمواتًا، أم سنواصل تبرير دوائر حول حجرٍ وصمتٍ أمام باطلٍ يلبس ثوب المحبة بينما هو يطفئ نور التوحيد في قلوب الناس؟ الأكثر ألمًا في هذا الموضوع هو أن الكثير من أصحاب العمائم يدركون الحقيقة كاملة، أكثر مما ندركها، ولكنهم يرتعشون عند قولها ويهرعون إلى تبريرات أقل ما يمكن وصفها بالمخنثة لكنني أترفع عن هذا الوصف احترامًا لك عزيزي القارئ.

اقرأ أيضًا: انهيار السياق

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى