عمر غازي

خيانة المؤدلجين

خيانة المؤدلجين

عمر غازي

متى تخوننا الفكرة التي رفعناها شعارًا، هل تخون حين نفشل في الدفاع عنها، أم حين ننجح في تحويلها إلى قناع يخفي تناقضاتنا، أم حين تغدو هويتنا أثمن من الحقيقة التي ادّعينا السعي إليها، في اللحظة التي تصبح فيها الفكرة بطاقة تعريف لا أداة فهم يبدأ صاحبها بخيانة المعنى ليحمي الشعار لا ليحمي الصدق، عندها لا ينقلب المؤدلَج على خصومه فقط، بل ينقلب على قيمه هو أولًا، ويعيد ترتيب الضمير بما يخدم القبيلة الفكرية لا بما يخدم الحقيقة.

تصف الأدبيات الكلاسيكية في علم النفس الاجتماعي ما يحدث بدقة، ففي أعمال ليون فستنغر في ستانفورد عن التنافر المعرفي نجد أن الإنسان حين يتعارض فعله مع قناعته لا يُراجع فعله بل يُعيد كتابة القناعة لتبرير الفعل، ويشرح باتسون وزملاؤه في أبحاث النفاق الأخلاقي أن الفرد قد يدعو إلى مبدأ علنًا ثم يمنح نفسه استثناءً خفيًا حين يختلي بذاته، بينما تكشف دراسات التحيّز الدافع أن العقل لا يعمل هنا بوصفه باحثًا عن الحقيقة بل محامي دفاع يبحث عن أي ذريعة تحفظ صورة الذات أمام الجماعة، وهكذا تتحول الأيديولوجيا من بوصلـة أخلاقية إلى نظام حصانة يبرر الأخطاء ما دامت صادرة من الداخل ويحاكم الصواب ما دام صادرًا من الخارج.

خيانة المؤدلَجين ليست في أنهم يملكون فكرة بل في أنهم يقدسونها بحيث تُعفيهم من المساءلة، ترى الحزب الذي بنى شرعيته على محاربة الفساد يبتكر قاموسًا جديدًا للصفقات حين تطال المقربين، وترى من يرفع شعار الحرية يبرر القمع إذا كان الضحية خصمًا أيديولوجيًا، وترى من يتحدث باسم الدين يُغلّظ الأحكام على الناس ثم ينسج لنفسه رخصة طقسية لا تمت بصلة لجوهر التقوى، ليست المشكلة في الفكرة ذاتها بل في لحظة تتحول فيها إلى درع هوية، إذ يبدأ العقل بانتقاء الأدلة التي توافق القبيلة ويُقصي كل ما سواها، لا لأن الدليل ضعيف بل لأن الانتماء أقوى.

هناك آليات نفسية معروفة تغذي هذه الخيانة الهادئة، التحيّز التأكيدي يجعل صاحبه يرى ما يوافقه ويعمى عما يخالفه، والهوية الوقائية تجعل تصحيح المعلومة يبدو تهديدًا للذات لا إثراءً للفهم، واستقطاب المواقف يدفع الفريقين إلى مواقف أشد تطرفًا كلما طال السجال، لذلك كثيرًا ما تنتهي مناظرات المؤدلَجين بتصلب أشد لا بوضوح أكبر، إذ تُستدعى المصطلحات كأختام جاهزة، وتُحاك الاتهامات على مقاس الخصم، وتُصاغ اللغة لا للبيان بل للتجييش، فيصبح الانتصار على الآخر بديلا عن الانتصار للحقيقة.

ومع ذلك فالأيديولوجيا ليست شرًا بذاتها، هي إطار لفهم العالم حين تبقى خاضعة للمراجعة، لكنها تخون صاحبها حين تتحول إلى دُغمائية تُحرّم السؤال وتشيطن المراجعة وتساوي بين الاعتراف بالخطأ والهزيمة، يَصدق صاحب الفكرة ما دام مستعدًا لأن يخسر جملة من جمهوره إذا اقتضى الصدق ذلك، ويخونها حين يجعل رضا القبيلة معيار الحق، عندئذٍ لا يعود الاختبار: هل هذه الفكرة أصوب، بل: هل ستغضب جماعتنا إذا قلناها، وهنا تتبدل مرجعية الضمير من معيار الصدق إلى معيار التصفيق.

يمكن تحصين الفكرة من خيانة أصحابها بآداب بسيطة صعبة التنفيذ، أن نقبل مبدئيًا بإمكان خطئنا وإمكان صواب خصومنا، أن نصف حجة المختلف كما يصفها هو قبل أن نرد عليها، أن نفصل بين المبدأ وبين أدوات التنظيم التي تزاحم عليه وتلوثه بالمصلحة، أن نُفصح عن تضارب المصالح حين نكتب أو نقرر، أن نطبّق القاعدة على القريب قبل البعيد لا لأن ذلك أشد قسوة بل لأنه أقرب إلى العدل، وأن نُبقي باب المراجعة مفتوحًا بلا مهانة، فالمؤمن بفكرته لا يخاف عليها من السؤال لأن السؤال هو ما يبقيها حيّة.

الخيانة الحقيقية ليست أن يترك المؤدلَج فكرته، بل أن يمكث فيها وقد ترك أخلاقها، أن يتكلم باسم الحرية وهو يكره حرية المختلف، وباسم العدالة وهو يقبض بيدٍ مرتجفة على ميزانٍ مائل، وباسم الدين وهو يقتطع من نصوصه ما يخدم حزبه ويصادر ما سواه، هذه الخيانة لا تُرى فورًا لأنها تُحاك بلغة النقاء، لكنها تترك أثرًا لا يخطئه من يعرف الفرق بين الولاء للحقيقة والولاء للشعار.

ويبقى السؤال بلا إجابة، هل نريد أفكارًا تنتصر بنا لأننا صادقون معها، أم شعارات تنتصر لنا لأننا أوفياء لراياتها، وإذا كان ثمن الحقيقة أن نخسر قبيلتنا يومًا فهل نجرؤ على دفعه أم سنختار خيانة الفكرة كي لا نخون الجماعة؟.

لمزيد من المقالات للكاتب عمر غازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى