كُتاب الترند العربي

العزلة.. حرية بلا ضجيج

العزلة.. حرية بلا ضجيج

هلا خباز

“كيف تقدر تسافر لوحدك؟!”… هو السؤال الذي يتبادر إلى ذهني حينما يخبرني أحد الأصدقاء بتجربته التي تدهشني، هي التجربة التي تمنيت أن أخوضها، أن أصاحب نفسي بالسفر، أن أستمتع بها، أن أكتشفها، أن أجوب شوارع المدن وأكتشف حاراتها، عاداتها، أن أحادث الغرباء والعابرين.. وفي مرة من المرات استجمعت قواي وجرأتي وحزمت حقائبي وسافرت، وللأسف لم أصمد أكثر من يومين قضيتهم في بهو الفندق أو في محيطه.

وأكثر ما نجحت به هو أن أعتزل في غرفتي مع كتابي وكوب القهوة وصوت عبدالحليم.. الحقيقة أن الانعزال عن الناس يحتاج جرأة لا أمتلكها في غالب أحياني، واكتشفت لاحقاً أنني امرأة تحيا ضمن محيطها، وأستمد طاقتي من وجودهم.

يقول الروائي الأميركي هنري ميلر: “وجهتنا ليست مكانًا، بل طريقة جديدة في رؤية الأشياء”.

في عالمٍ مزدحم، نجد أنفسنا بحاجة إلى مساحة ننفرد فيها بأنفسنا، نعيد ترتيب أفكارنا ونصغي إلى صوتنا الداخلي بعيدًا عن ضجيج الآخرين. وهنا تبرز العزلة الاختيارية كفعلٍ واعٍ، كمتعة للاكتشاف والحرية لا هروبًا من الواقع، بل اقترابًا من الذات. ويترجم هذا الفعل السفر الفردي كأحد أبهى أشكال هذه العزلة؛ أن يلتقي الإنسان بنفسه وبالعالم في آنٍ واحد.

السفر الفردي ليس مجرد رحلة خارجية ننتقل فيها من مكان إلى آخر، بل هو رحلة داخلية متكاملة، رحلة نخطط لها وفقاً لإيقاعنا الخاص، نختار وجهة تشبهنا، نغامر حين نشاء، نتوقف حين نرغب دون أن نتقيد بجدول ورغبات الآخرين.

العزلة هنا ليست شعورًا بالوحدة، بل هي فرصة عميقة للاتصال بالنفس، السفر منفردًا تجربة لا تُنسى، تمنحنا متعة الحرية وفوائد العزلة الاختيارية. هو لقاء مع العالم بعين جديدة، ولقاء مع أنفسنا بعمق أكبر. وفي النهاية، يجب أن ندرك أن أجمل الرحلات تلك التي تبدأ من الداخل.

“السفر ليس هروبًا من الواقع، بل لقاء مع ذاتك”، كما يقول الروائي باولو كويلو. هو فرصة للتأمل وإعادة شحن الطاقة وتجديد الأفكار، ففي أوقات الصمت والانعزال، تتولد أفكار جديدة وتستيقظ الحواس على تفاصيل الحياة الصغيرة التي أغفالناها كثيرًا.

كثيرون مثلي يخشون العزلة، يربطونها بالوحدة والفراغ.. لكن الحقيقة أن العزلة الاختيارية ليست سوى مساحة آمنة نخلقها لنصغي فيها إلى أنفسنا. كما يقول نيكوس كازانتزاكيس: “في العزلة، تنمو الأشياء العظيمة، وربما تنمو أنت”، العزلة لا تعني الانقطاع عن العالم، بل هي انتقاء اللحظات التي تقضيها معهم وتلك التي تكرسها لذاتك، هي أن تكون سيد لحظاتك.

الحقيقة هي أن السفر الفردي ليس وحدة بل قوة. قوة الإصغاء إلى صوتك الداخلي، وإعادة تعريف علاقتك بالعالم. كما قال هنري ميلر: “وجهتنا ليست مكانًا، بل طريقة جديدة في رؤية الأشياء”.

هل سافرت وحدك واخترت عزلتك؟
السفر الفردي يمنحنا متعة صامتة في أن نتحرك بأمزجتنا الخاصة، أن نختار كل لحظة دون تصويت جماعي، دون تنازل، ودون الاضطرار لارتداء أي قناع وابتسامة المضطر بأنا موافق. فحين نسافر مع مجموعة، نبقى ضمن دائرتها. لكن حين تسافر وحيدًا، تكون أكثر انفتاحًا على العالم. أكثر بساطة وأكثر قرباً من الغرباء وعابري السبيل، يحكي لك قصص مدينته، تتجول بثقافته، تتذوق أطعمته، أو حتى أن تصمت طويلًا وأنت تراقب الطريق مع قهوتك.. هي أن تكون حاضرًا بكمالك من دون تشويش.

في المدن الغريبة، نكتشف كيف استغنينا عن أشياء كثيرة كنا نظنها ضرورية. نمشي، نراقب، نكتب، نصغي إلى ضجيج المدن في الخارج وهدوء دواخلنا في الوقت ذاته.

كارل يونغ عالم النفس لخص هذه الحالة فقال: “الذي ينظر إلى الخارج يحلم، والذي ينظر إلى الداخل يستيقظ”.
وهكذا تستيقظ أنت، في لحظة تأمل على شاطئ مهجور، أو في زقاقٍ لم تزره من قبل، لتفهم شيئًا لم تفهمه عن نفسك يومًا.

فحين نسافر فرادى، لا نرى الأشياء فقط، بل نرى أنفسنا بشكل جديد. نتعرّف على مخاوفنا، نختبر صبرنا، نمارس شغفنا، سنتعرف على تلك المساحات الخفية من أرواحنا التي لم نكن نعرف أنها موجودة أصلاً.

السفر الفردي والعزلة الاختيارية يشبهان نافذة تُفتح على الداخل بقدر ما تُطل على الخارج. هما فرصة لاكتشاف العالم بعيون جديدة، وروح مقبلة على الحياة، هي استراحة محارب قرر فجأة أن يكتشف ذاته بعمق أكبر. وكما كتب جاك كيرواك: “في السفر، نكتشف ليس فقط أماكن جديدة، بل أنفسًا جديدة بداخلنا”.

السفر الفردي ليس للجميع، لكنه تجربة تستحق أن تُخاض مرة في العمر على الأقل. هي عزلة من نوع آخر، ليست انقطاعًا عن الحياة، بل اقترابًا منها.

وإن كنت تخشى الوحدة، تذكّر ما قاله بابلو نيرودا: “أحبّ الصمت حين أكون مع نفسي، فيه أسمع همسات روحي”.. لذا احزم حقائبك واختر وجهتك المقبلة.

المصدر: صحيفة البلاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى