فقر الانتباه

فقر الانتباه
عمر غازي
هل يمكن أن نملك كل شيء ولا نملك أنفسنا، وهل يمكن أن تتكاثر حولنا الشاشات بينما تتناقص فينا القدرة على أن نبقى مع فكرة واحدة حتى تكتمل، في اللحظة التي نُسَلِّم فيها انتباهنا لمن يتقن هندسة العيون والعقول نتخلى عن أثمن ما لدينا دون أن نشعر، فنحن لا ندفع اليوم بالمال أولًا بل بالدقائق التي نُسلمها طوعًا لمصممي العادات الرقمية.
يقول هربرت سايمون إن وفرة المعلومات تُنتج فقرًا في الانتباه، وهذه المقولة لا يمكن اعتبارها عبارة عابرة فصاحبها عالم اقتصاد وعلم نفس معرفي نال جائزة نوبل عام 1978 لعمله على العقلانية المحدودة واتخاذ القرار، وهو من أوائل رواد الذكاء الاصطناعي الذين حاولوا نمذجة التفكير الإنساني، حين قال جملته كان يصف ميزانية العقل لا ميزانية السوق، لأن كل معلومة جديدة تطلب من انتباهك ثمنًا وتترك في ميزانك نقصًا.
لم يعد الانتباه حالة نفسية عابرة، بل صار موردًا نادرًا تُسعَّر به المنصات والإعلانات وتُقاس به قيمة الرسائل، كل زر مصمم ليختطف ثانية، وكل تنبيه مبرمج ليوقظ عادة، وكل خوارزمية تتعلم من ارتباكنا كيف تنسج طُعمًا أدق في المرة التالية، وهكذا يتبدل سؤال الحرية من ماذا أريد أن أرى إلى ماذا يريدون أن أرى حين أظن أنني أختار.
تكشف بحوث الانتباه الرقمية أن متوسط بقاء الموظف على مهمة واحدة تقلص إلى نحو دقيقة قبل أن ينتقل إلى غيرها، وكل انتقال يبدو بلا كلفة لكنه يفرض ضريبة خفية اسمها كلفة الاسترجاع، إذ يحتاج الدماغ وقتًا ليعود إلى العمق الذي انقطع عنه، ومع تكرار الانقطاعات يتكاثر السطح ويذبل العمق، فنكتب كثيرًا ونفكر قليلًا.
وعندما درس باحثون أثر تعدد المهام الإعلامية على الأداء المعرفي وجدوا أن من يفاخر بقدرته على فعل كل شيء في وقت واحد أسوأ في تصفية المشتتات وأضعف في التحول المرن بين المهام من غيره، فالدماغ لا يُضاف إليه أداء بالجمع بل يُنتزع منه التركيز بالتقسيط، وكل جرعة صغيرة من التشتت تُراكم فقرًا طويل الأجل في القدرة على الإصغاء والتفكير.
وأظهرت تجارب أخرى أن مجرد وجود الهاتف على الطاولة ولو كان صامتًا يُقتطع من السعة العاملة للذاكرة ويضعف الأداء في مهام التفكير السائل، ليست الرسالة ولا الاتصال هي المشكلة بل ظل الاحتمال، فكرة أن شيئًا قد يحدث بعد لحظة تكفي لتشطر الانتباه نصفين، نصفًا حاضرًا معنا ونصفًا مع شاشة ربما تومض.
هذه ليست ظواهر تقنية فحسب، بل بنية سلوكية متعمدة، إن نماذج التعزيز المتقطع التي وُصفت في علم السلوك عادت في ثوب رقمي تمنحنا مكافأة غير متوقعة كل حين، فتربطنا بدورة انتظار لا تنتهي، وتحوّل فترات الصمت إلى قلق، والسكينة إلى شعور بالنقص، ومع الزمن يتشكل عقل تلقيني سريع الاستجابة بطيء التأمل، يتذكر العناوين وينسى الحجج، ويقرأ ردود الفعل أكثر مما يقرأ الفكرة.
لفقر الانتباه ثمن أخلاقي أيضًا، إذ تتراجع قدرتنا على الإصغاء الحقيقي لمن نحب لأن حضورنا يتفتت، ويزداد ميلنا إلى الأحكام السريعة لأن التعقيد يحتاج زمنًا لا تمنحه الخوارزميات، ويقوى أثر التحيز التأكيدي لأننا نمر مرورًا خاطفًا فوق الأدلة فلا نبقى معها بما يكفي لتحدي قناعاتنا، وهكذا يشتد الاستقطاب لا لأن الحجج أقوى بل لأن العيون أضيق.
استعادة الانتباه ليست حربًا على التقنية بل استرداد سيادة على الزمن، أن نعيد للصمت مكانته شرطًا للفكر لا فراغًا يجب ملؤه، وأن نعمل دفعات كاملة لا فتاتًا متطايرًا، وأن نسمح للتأخر أن يكون جزءًا من الإبداع لأن ما يُطبخ على نار الإشعار يُؤكل نيئًا، الانضباط هنا ليس قيدًا على الحرية بل سياجها، فمن لا يضع حدًا لمطالب الشاشة لن يضع حدًا لمطالب الآخرين منه.
ليس المطلوب أن ننعزل بل أن نختار، أن نفكك الطُعم إلى مكوناته فنرى أين يُسلب منا الانتباه دون عائد عادل، وأن نسأل عن الربح الصافي لكل دقيقة تُنفق، وأن نتذكر أن الجودة وليدة الوقت الطويل، وأن القراءة العميقة لا تتعايش مع التمرير اللانهائي، وأن من يُعوِّد نفسه على البدايات السريعة يفقد مهارة الوصول إلى النهايات الصعبة.
ويبقى السؤال، إذا كان اقتصاد المنصات قد أتقن هندسة نقصنا فهل نتقن نحن هندسة كفايتنا، وهل نملك الشجاعة لنقول لا لما يربح منا أكثر مما يربح لنا، أم سنواصل دفع أغلى ما نملك انتباهنا على أقساط صغيرة حتى نفقد القدرة على الشعور؟