عمر غازيكُتاب الترند العربي

عض قلبي ولا تعض رغيفي

عمر غازي

هل تعرف الإنسان حقًا قبل أن يمرّ المال بين يديك ويديه، وهل تكفي الكلمات الناعمة والابتسامات الدافئة لتكشف معدنًا لا يظهر إلا حين تُمسّ المصالح، في مجتمعاتنا حكمة قديمة تقول عض قلبي ولا تعض رغيفي، كأنها تفرّق بين أذى يزول وأذى يقتات من العيش، إذ عند اختبار المادة تظهر طبقات الشخصية التي لا تُرى في الود الخالي من الحساب.

المال لا يختبر الجَيب فقط بل يغيّر السلوك ذاته، ففي سلسلة تجارب أجريت في جامعة مينيسوتا ونُشرت عام 2006 تبيّن أن مجرد تذكير الناس بالمال يجعلهم أقل طلبًا للمساعدة وأقل استعدادًا لمساعدة الآخرين، حيث رسّخ التذكير بالمال نزعة الاكتفاء الذاتي على حساب التعاطف، وهذه النتيجة لا تتحدث عن الطمع المباشر بقدر ما تكشف أثرًا هادئًا يبرد الروابط حين يدخل المال المشهد.

وعندما نطلب دليلًا على صدق الناس في المعاملات الصغيرة نجد أن التجارب التي تقيس الأمانة بالفرص المجهولة تكشف نمطًا متكررًا، ففي تصميمات “رمي النرد” الخاصة بقياس الكذب الخفي ظهر أن نسبة غير قليلة من المشاركين ترفع مكاسبها بتلاعب طفيف وهي واثقة أن أحدًا لن يكتشفها، كما أن تدخلات سلوكية بسيطة كالتوقيع المسبق على الصدق لم تُظهر فاعلية مستقرة في الحد من الغش عند التحقق الميداني، ما يعني أن النية الحسنة وحدها لا تكفي عندما تصبح المادة في المتناول.

لكن هل تكشف مختبرات الاقتصاد السلوكي ما سنراه خارجها، هذا سؤال مشروع، وقد قارنت دراسات بين كرم الناس في ألعاب المختبر وعطائهم في الواقع فوجدت ارتباطًا ذا دلالة حين تُصمَّم التجربة على صورة الموقف الحياتي الحقيقي، أي إن من يجود بنصيبه في اللعبة، خاصة حين يقترب السياق من الواقع، يميل إلى السخاء في التبرع خارج المعمل، وهي إشارة إلى أن الاختبارات المالية الصغيرة يمكن أن تتنبأ بخُلق ميداني إذا أُحسن تصميمها.

أما القيم المادية حين تُرفع إلى مرتبة الهوية فثمنها يتجاوز المعاملة الواحدة، إذ خلص تحليل تلوي واسع عام 2014 شمل 259 عينة مستقلة إلى أن أولوية المال والمقتنيات ترتبط بانخفاضات ملحوظة في الرفاه النفسي والعلاقات، وأن هذا الارتباط يظهر عبر ثقافات وفئات عمرية متعددة، ليس لأن المال شر في ذاته بل لأن تحويله إلى ميزان للكرامة يضعف المعاني التي تُبنى عليها الثقة.

ويشتدّ الامتحان حين يضيق الرزق، فالنماذج الأسرية التي درست أثر الضغوط المالية عبر عقود وجدت أن الشدة الاقتصادية تزيد النزاع وتُقسي اللغة وتولد أنماطًا قسرية في التفاعل بين الأزواج والآباء والأبناء، وتُظهر متابعات طولية أحدث أن مسار الضغط المادي إلى التوتر الزواجي ثم إلى العنف اللفظي أو التربوي مسار ثابت إذا غاب العون والتنظيم، أي إن المال عند العوز لا يكشف فقط من نحن، بل قد يغيّرنا إن لم ننتبه إلى ضبطه وعدله.

إذا أردت أن تعرف إن كنت تعرف شخصًا حقًا فجرب أن تتعامل معه ماليًا بوضوح صغير قبل الالتزام الكبير، انظر كيف يكتب الاتفاق، وكيف يحسب القِسمة حين لا يراه أحد، وكيف يردّ الفائض إذا أخطأ لصالحه، وكيف يعتذر إذا قَصَّر وهو قادر على التبرير، إذ في تفاصيل الفواتير الصغيرة تظهر الأخلاق الكبيرة، بينما في المجاملات اللفظية يختلط الصدق بالذوق.

هذه ليست دعوة إلى الشك العام ولا إلى تحويل الحياة إلى محاكمات متواصلة، بل إلى اختبار عادل لا يحرج ولا يغري، تجربة محدودة تكفي لتقول لنا أيّهما أقوى في هذا الشخص، حرصه على الرغيف أم حرصه على الحق، لأن الشراكات التي لا تُمحَّص قبل العقود تُعلّمنا متأخرة أن القلب يمكن أن يحتمل الخلاف، أما الرغيف فإذا مسّه الظلم ندر أن تعود الثقة كما كانت.

ويبقى السؤال، هل نمتلك الشجاعة لنقيّم القريب قبل العقد لا بعده، وأن نجعل العدل ميزان الود لا ضحيته، أم سنظل نكتشف الناس بعد فوات الرغيف ثم نلوم الزمن لأنه كشف ما كان فيهم كامنًا؟

اقرأ أيضًا: ما لا يعرفه الموظف ويريده صاحب العمل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى