
لماذا صمت العالم عن السودان وتكلّم عن غزة؟
د. إلهام شاهين
بين نهر النيل وغزّة البحر، تنزف جراح الإنسان العربي في صمتٍ وصراخٍ معًا.
لكننا حين نُقلب نشرات الأخبار ونطالع العناوين، نجد الدنيا كلّها تتابع غزة،
بينما السودان — الذي يلتهمه الجوع والنزوح والدم — يعيش في ظلّ التعتيم.
فما الذي يجعل مأساةً تُسمَع في كل بيت، وأخرى تُدفن تحت رمال النسيان؟
أولًا: حين تكون القضية “رمزًا”
القضية الفلسطينية ليست مجرد حربٍ على أرض، بل حكاية احتلالٍ عمرها أكثر من سبعين عامًا.
تختصر في وعي الشعوب صورة الظلم في أقسى معانيه: طفلٌ بلا مأوى، وأمّ تبكي خلف الركام، وعدوّ واضح المعالم.
لذلك كل قصفٍ في غزة يدوّي في ضمير العالم، كأنه اعتداءٌ على الإنسانية نفسها.
أما في السودان، فالمشهد مختلف.
الإعلام يُصوّر ما يجري على أنه صراعٌ بين جنرالين على السلطة، لا قضية احتلال ولا مقاومة.
فتبدو الحرب شأناً داخليًا، فاقدًا للرمز، ومجرّدًا من البطولة.
وحين يغيب “الرمز” يغيب التعاطف، لأن العالم لا يتحرّك إلا حين يرى معنى.
ثانيًا: من يملك الصوت؟
غزة لها صوتٌ قوي، قنواتٌ وأقلامٌ وأصواتٌ عالمية تنقل الحدث لحظة بلحظة.
بينما السودان يعيش في عزلةٍ تكنولوجية؛ انقطاع إنترنت، غياب مراسلين، وموتٌ لا يُصوَّر.
وفي زمن الصورة، من لا صورة له، كأنه لم يوجد.
ثم إن في السودان من لا يرغب أصلًا أن تُروى القصة.
قوى إقليمية ودولية تفضّل الصمت، لأن الكلام قد يُدينها أو يُحرج مصالحها.
فأُغلقت العدسات، وبقيت المأساة حبيسة العتمة.
ثالثًا: التعقيد يقتل الحكاية
الإعلام يحب القصص البسيطة: ظالم ومظلوم، محتلّ ومقاوم.
لكن السودان معقّد؛ قبائل، ومناطق، وتحالفات تتبدّل، وجبهات تتناسل كل يوم.
يصعب على المشاهد العادي أن يفهم من يقاتل من، ولماذا.
فيستسلم للملل، ويبحث عن مأساةٍ أوضح حدودًا.
رابعًا: حين لا يكون هناك “مصلحة دولية”
غزة على تماسٍّ مع إسرائيل، الحليف الغربي الكبير، ومركز السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط.
لذلك كل قذيفة فيها تُحدِث صدى في الأمم المتحدة والبيت الأبيض.
أما السودان، فبعيدٌ عن حسابات الكبار، لا يُهدّد إسرائيل، ولا يؤثر في النفط العالمي،
فبدا وكأنه أزمة لا تغيّر موازين القوى، فُترك ليحترق بصمت.
خامسًا: غياب الوعي العربي
والأدهى أن العالم العربي نفسه لم ينتبه بما يكفي.
فالسودان — في وعي كثيرين — بلد بعيد، لا يدخل في “قضايا الأمة الكبرى”.
والقنوات العربية الكبرى لم تمنحه ما يستحق من الضوء.
فتشتّتت العقول بين صراعات أخرى، وبقيت دارفور والخرطوم وجنوب كردفان أخبارًا هامشية، لا تهزّ القلوب.
سادسًا: ضحية بلا شهود
الإنسان السوداني اليوم يعيش مأساةً لا تقلّ عن مأساة غزة:
مدنٌ تُباد، نساءٌ تُغتصب، أطفالٌ يموتون عطشًا وجوعًا، وملايين مشرّدون في العراء.
لكنّ العالم لا يسمع أنينهم، لأنّ الأنين بلا كاميرا لا يُوجِع،
ولأنّ العدالة في هذا الزمن لا تتحرّك إلا حين تشاهد الصورة على الشاشة.
لا فرق بين دماء البشر
ليس المقصود أن تُقارن الآلام، فكل دمٍ إنساني حرام، وكل مأساةٍ تستحق البكاء.
لكن ما يؤلم هو أن تُفرَز المآسي بميزانٍ سياسيٍّ أو إعلاميٍّ،
فيسمع العالم من يُسمَح له أن يتكلم، ويُنسى من لا يملك منبرًا.
السودان لا يحتاج إلى عطفٍ عابر
بل إلى عدسة عادلة
تُعيد للإنسان السوداني اسمه، ووجهه، وصوته.
فحين يتساوى دم الإنسان في القيمة، عندها فقط يمكن أن نقول إن الإنسانية ما زالت حية.
أما الشعوب العربية فبقيت قلوب تحترق من لهيب دماء اشقائها التي تراق في كل يوم
وتقول متى نصر الله
ليس لها من دون الله كاشفة.
الأمين العام المساعد لمجمع البحوث الإسلامية وأستاذ العقيدة والفلسفة بجامعة الأزهر
المصدر: اليوم السابع



