العمل بذكاء
عمر غازي
في عام 2018 قرّر “أندرو بارنز” مؤسس شركة “Perpetual Guardian” في نيوزيلندا أن يجرب تجربة بدت للبعض نوعًا من المغامرة غير المحسوبة، أعلن لمئتين وأربعين موظفًا تقريبًا أن أسبوع العمل سيتقلّص إلى أربعة أيام فقط مع بقاء الرواتب كما هي، ولم يطلب منهم أن يعملوا ساعات أطول في الأيام الأربعة بل أن يعيدوا تنظيم عملهم بحيث يسلّموا النتائج نفسها في وقتٍ أقل، وبعد انتهاء التجربة التي تابعتها جامعات وباحثون مستقلون تبيّن أن الإنتاجية ارتفعت بنحو 20% وأن شعور الموظفين بالقدرة على موازنة العمل والحياة تحسن، وانخفض الضغط النفسي ومستويات التوتر لديهم دون أن تهبط النتائج أو يتضرر العملاء، هنا لم يكن السر في أن الناس عملوا أكثر بل في أنهم تعلموا أن يعملوا بذكاء.
هذه القصة الحقيقية تطرح سؤالًا أبسط وأعمق من ضجيج شعارات النجاح اليوم، هل المشكلة في عدد الساعات التي نعملها أم في الكيفية التي نستخدم بها تلك الساعات، وكيف تحوّل “الانشغال” إلى قناع نختبئ وراءه من مواجهة حقيقة أن قسمًا كبيرًا مما نفعله خلال اليوم لا يغيّر شيئًا في النتائج، بينما يواصل كثيرون قياس قيمتهم بعدد الساعات التي قضوها في المكتب أو أمام الشاشة لا بما خرجوا به من أثر يمكن وصفه والدفاع عنه بالأرقام لا بالعاطفة.
حين نتأمل علاقة عدد الساعات بالعائد الفعلي نجد أن الأرقام نفسها تقلب الصورة التي اعتدناها، فقد حللت دراسة صادرة عن “Stanford University” عام 2014 بيانات عمال مصانع وخلصت إلى أن الإنتاج يرتفع مع زيادة ساعات العمل حتى عتبة تقارب 49 ساعة أسبوعيًا ثم يبدأ في التباطؤ، وبعد 55 ساعة تقريبًا تهبط الإنتاجية إلى حد أن من يعمل 70 ساعة ينجز تقريبًا المقدار نفسه الذي ينجزه من يعمل 55 ساعة، أي أن الساعات الإضافية بعد تلك النقطة تتحول إلى وقتٍ مهدور يرهق الجسد والعقل أكثر مما يضيف إلى الناتج النهائي، وتضيف مراجعات أخرى أن ثقافة “العمل حتى الإنهاك” لا تعني بالضرورة عملًا أفضل بل قد تعني أخطاء أكثر وقرارات أسوأ وحضورًا جسديًا يغطي على غيابٍ حقيقي في جودة التفكير.
ولا يقف الثمن عند حدود الإنتاجية فحسب بل يمتد إلى الجسد ذاته، إذ نشرت “Harvard Medical School” عام 2015 تحليلًا لبيانات واسعة أظهر أن من يعملون أكثر من 55 ساعة أسبوعيًا ترتفع لديهم مخاطر الإصابة بأمراض القلب والسكتة الدماغية مقارنة بمن يعملون بين 35 و40 ساعة، في حين ربطت دراسات بريطانية أخرى بين الساعات الطويلة المزمنة وبين تراجع الرفاه النفسي وزيادة مؤشرات القلق والاكتئاب على المدى البعيد، ما يعني أن ساعة العمل الإضافية بعد نقطة معينة لا تُقتطع من وقت الفراغ فقط بل من رصيد الصحة والعمر، وأن الإصرار على مساواة طول اليوم بقيمته تحوّل في كثير من القطاعات إلى صفقة غير عادلة يدفع فيها الإنسان من حياته أكثر مما يحصل عليه من عائد حقيقي.
العمل بذكاء يبدأ من الاعتراف بأن العائق الأكبر أمام جودة العمل ليس دائمًا قلة الجهد بل تشتته، فقد أمضت عالمة المعلومات “Gloria Mark” من “University of California, Irvine” نحو عقدين في دراسة سلوك الناس أمام الشاشات، وبيّنت في أبحاث نشرت عام 2016 وما بعدها أن متوسط المدة التي يبقى فيها الموظف مركزًا على شاشة واحدة قبل أن ينتقل إلى شيء آخر لا يتجاوز 47 ثانية، وأن العودة إلى مستوى التركيز السابق بعد المقاطعة الواحدة قد تستغرق في المتوسط أكثر من 20 دقيقة، وعندما تتكرر هذه الانقطاعات عشرات المرات في اليوم يصبح جزء كبير مما نسمّيه “ضغط عمل” في الحقيقة نتيجة تصميم بيئة عمل تسمح لكل إشعار ورسالة أن يمزّق خيط التفكير قبل أن يكتمل، فيبدو اليوم ممتلئًا بينما حصيلته الحقيقية أقل مما كان يمكن أن تكون لو حُميَت لحظات التركيز العميق من هذا النزيف المستمر.
وحين نعود إلى تجارب تقليص ساعات العمل المنظمة نجد أن الشركات التي قررت أن تراهن على “الوقت الأذكى” بدل “الوقت الأطول” لم تخسر كما خاف البعض بل كسبت أكثر مما توقعت، ففي تجربة “Microsoft Japan” عام 2019 أغلقت الشركة مكاتبها كل أيام الجمعة لشهر كامل ومنحت الموظفين أجرهم كاملًا مقابل أسبوع عمل من أربعة أيام، وبعد نهاية التجربة أعلنت أن الإنتاجية ارتفعت بنحو 40% وأن تكاليف الكهرباء والطباعة انخفضت، بينما أظهر برنامج تجريبي واسع في المملكة المتحدة عام 2022 شمل 61 شركة ونحو 2900 موظف أن 92% من الشركات قررت الاستمرار في نظام الأربعة أيام بعد انتهاء الفترة الرسمية، وأن مستويات الاحتراق الوظيفي انخفضت، والضغط النفسي تراجع، والإيرادات بقيت مستقرة أو تحسنت قليلًا في عدد من الحالات، هنا لا نتحدث عن قصة مثالية معزولة بل عن اتجاه عالمي تُشارك في دراسته جامعات مثل “Cambridge” و”Oxford” و”Boston College” ويدعم فكرة أن إعادة تصميم العمل يمكن أن تحفظ الإنتاج وتخفف الثمن الإنساني في الوقت نفسه.
غير أن العمل بذكاء لا يعني بالضرورة تقليص أيام الأسبوع لكل الناس غدًا، فليس كل قطاع ولا كل مهنة قابلة للنسخة نفسها من التجربة، لكنه يعني أن يبدأ الفرد والمؤسسة معًا بسؤال مختلف هو ما الذي يصنع الجزء الأكبر من القيمة في يوم العمل، وكيف يمكن حماية هذا الجزء من التآكل تحت سيل الاجتماعات العشوائية والمهام الصغيرة التي تتكاثر لأنها سهلة لا لأنها ضرورية، إذ تشير نتائج تجارب الأربعة أيام نفسها إلى أن أحد أهم مفاتيح نجاحها لم يكن تقليل الساعات وحده بل التخلص من الاجتماعات غير المهمة، وضبط أوقات المراسلات، واستبدال ثقافة الرد الفوري بثقافة النوافذ المحددة للعمل العميق، أي أن “الذكاء” لم يكن في ساعة أقل فحسب بل في قرار واعٍ أن لا يُسمح لكل شيء أن يحتل مساحة في وقت العقل.
على مستوى الفرد يمكن ترجمة فكرة العمل بذكاء إلى عادات صغيرة لكنها تراكمية الأثر، كأن يبدأ اليوم بما يترك أثرًا حقيقيًا في النتائج لا بما يسهل إنجازه بسرعة، وأن تُقسّم الساعات إلى فترات محددة مغلقة على مهمة واحدة ما أمكن دون رسائل أو شبكات اجتماعية، وأن تُستخدم فترات الراحة لاستعادة الطاقة لا لاستنزافها بمزيد من التشتت، وأن يسجل الإنسان لنفسه في نهاية كل أسبوع ما الذي تغيّر فعليًا بسبب عمله هذا الأسبوع، رقمًا أو تحسينًا في عملية أو مهارة جديدة وليست قائمة بما “بقي مشغولًا فيه”، فالعقل الذي يُمنح حقه في التركيز ثم في الراحة يعمل في المدى الطويل بفعالية أعلى من عقلٍ يظل في وضعية التأهب الدائم دون أن يصل إلى عمق حقيقي في أي مهمة.
العمل بذكاء يعني أيضًا أن نقاوم ثقافة التفاخر بالتعب غير المنتج، فلا يتحول السهر في المكتب إلى وسام، ولا تغدو رسائل البريد المرسلة بعد منتصف الليل دليلًا على الإخلاص، لأن الدراسات التي تقيس الأثر الفعلي تقول إن هذا النمط يراكم الأخطاء ويضعف الحكم ويزيد احتمالات القرار السيئ، بينما تُظهر التجارب التي أعادت توزيع الوقت داخل اليوم أنها لا تقلل من الجدية بل تعيد توجيهها نحو نقاط الأثر الأعلى، وهنا يصبح معيار الجدية هو ما نتركه من أثر يمكن قياسه في جودة الخدمة، أو سرعة الإنجاز، أو رضا المستفيد، أو مهارة أضيفت فعلًا إلى صندوق أدواتنا بدل أن تبقى معلومات نظرية لم تجد طريقها إلى التطبيق.
ويبقى السؤال مفتوحًا لكل واحد منا قبل أن يكون للسياسات العامة، هل سنواصل قياس قيمة أيامنا بمقدار ما أرهقنا أنفسنا فيه وعدد الساعات التي بقينا فيها أمام الشاشة حتى لو عاد علينا ذلك بتركيزٍ منقوص وصحةٍ مستنزفة، أم نراجع تعريفنا للعمل الجاد فنعتبر أن النجاح ليس في أن نعمل أكثر قدر الإمكان بل في أن نصنع بأقل ساعة ممكنة أكبر أثر يمكن الدفاع عنه أمام أنفسنا قبل أن ندافع عنه أمام غيرنا.



