“سوق العمل” لا يكافئ إلا المبادر
عمر غازي
هل يبدأ الأجر قبل الأثر أم أن الأثر هو الذي يكتب الرقم على العقد، وهل يُعقل أن يعلّق الموظف اجتهاده على وعدٍ لم يأتِ بعد بينما الطريق المهني لا يفتح أبوابه إلا لمن طرقها فعلًا لا لمن انتظر أن تُفتح له من تلقاء نفسها.
أظهرت دراسة طويلة المدى نُشرت عام 1999 في مجلة متخصصة في علم النفس المهني وشملت نحو خمسمئة موظف أن أصحاب السمات المبادرة حصلوا خلال سنوات المتابعة على رواتب أعلى وعدد ترقيات أكبر من أقرانهم الأقل مبادرة، إن قلب المعادلة هنا هو أصل الحكاية حيث يرهن البعض تطوره وعطاؤه في العمل بالتقدير المادي أولًا، بينما يعمل القلة ويتطورون ثم يطلبون ويُطلبون.
الوهم الشائع أن يقول المرء لنفسه سأبذل إذا حصلت، فيظل يزن كل مهمة بميزان النقد الفوري ويحسب كل جهد بحسابٍ عاجل، فتضيق تجربته بما سمح به هذا الحساب ويضيق معها أفقه، إذ ينسى أن التعلم لا يُشترى مقدمًا وأن المهارة لا تظهر إلا حين تُختبر، وقد أظهر تقرير “Future of Jobs” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي عام 2025 أن أصحاب العمل يتوقعون أن تتغير نحو 39% من المهارات الأساسية المطلوبة بحلول عام 2030، وهو رقم يقول بوضوح إن من يربط جهده فقط بما يُدفع له الآن يعرّض نفسه لأن يستيقظ بعد سنوات على سوقٍ لم يعد يعترف بما يملك من أدوات، ومن ثم يبقى أسير حد أدنى من الأداء وحد أدنى من الفرص لأن المعادلة التي بنى عليها يومه لا تترك للغد مساحاتٍ ينمو فيها.
الواقع أبسط وأقسى، السوق لا يشتري النيات بل يشتري الأثر، وتظهر هذه الحقيقة في أرقامٍ باردة حيث أظهرت بيانات صادرة عن مؤسسة “Gallup” الأمريكية عام 2020 أن الوحدات التي يرتفع فيها انخراط الموظفين تحقق إنتاجية أعلى بنحو 17% وربحية أكبر بنحو 21% مقارنةً بالوحدات الأقل انخراطًا، أي أن المؤسسات تكافئ عمليًا من يوسّع أثره بما يتجاوز الحد الأدنى لا من يكتفي بتأدية الدور الورقي، فإن لم يُنصفك موضعك الحالي أنصفك انتقالك لأن ما راكمته من معرفة قابلة للنقل وما وثقته من نتائج يسبق اسم الشركة ويصاحب اسمك، فمن يعمل ابتداءً يصنع لنفسه سجلًا يفرض الاعتراف ولو تأخر، أما من ينتظر الاعتراف كي يعمل فلن يجد ما يعترف به أحد لأنه لم يترك وراءه ما يدل عليه.
ولا تناقض بين هذا وبين حقوقٍ لا يجوز التنازل عنها، فالأجور تُحدَّد أحيانًا بظرف التوقيت وندرة المهارة وحالة الميزانية لا بميزان دقيق للقيمة، وقد يُدفع رقم مرتفع لشخص لأنه المتاح في أسبوعٍ حرج، غير أن الاستثناء لا يصنع مسارًا طويلًا ما لم يتحول إلى أثرٍ مستمر، وقد أظهرت دراسة صادرة عن معهد “IZA” للأبحاث في الاقتصاد العمالي عام 2014 أن العائد على التدريب داخل بيئة العمل بلغ في المتوسط نحو 7.7% زيادة في الأجر في ماليزيا ونحو 4.5% في تايلاند بعد فترة من انتهاء التدريب، لا لأن أرباب العمل أصبحوا أكثر كرمًا وإنما لأن المهارة الجديدة صارت حقيقةً يمكن قياسها وبيعها والتفاوض عليها، بينما من بدأ برقمٍ متواضع ثم وسّع منفعته أعاد الزمنُ تسعيره داخل الشركة أو خارجها لأن القاعدة في النهاية تقول إن القيمة تلحق بالدليل لا بالخطاب.
وتظهر اليد العليا حين يعامل المرء كل مهمة باعتبارها سُلّمًا يضيف درجةً إلى خبرته، فيرفع معيار الجودة قليلًا عمّا طُلب، ويربط ذلك بمؤشرٍ يقاس في الوقت أو التكلفة أو الإتقان، ويحتفظ بسجل موجز يصف ما تغيّر بسبب تدخّله لا بسبب رغبته، ويتعلم على مشروعٍ حي مهارةً يعبر بها بين البيئات بدل أن يراكم معلومات لا تجد مكانًا تُجَرَّب فيه، وقد أظهرت مراجعة بحثية دولية صادرة عن مركز “NCVER” الأسترالي عام 2020 أن التعليم القائم على العمل يرفع فرص الحصول على وظيفة ويحسّن جاهزية الخريجين لسوق العمل ويمنح أصحاب العمل مكاسب إنتاجية من عمال أكثر استعدادًا، أي أن كل مشروع حي يشارك فيه الفرد بجدية هو في الحقيقة استثمار مباشر في قابلية توظيفه وفي قوته التفاوضية لاحقًا، هنا يصبح التفاوض لاحقًا حوارًا حول أثر وقع بالفعل لا وعدٍ بما سيقع إن دُفع الثمن أولًا.
ولكي لا يتحول العطاء إلى سذاجةٍ مستنزفة يلزم أن يقترن بسقفٍ زمني للمراجعة ومعايير ظاهرة للقياس، فيُطلب موعد محدد لتقييم النتائج ويُسجَّل ذلك بوضوح، وقد أظهرت تحليلات صادرة عن “Gallup” في الأعوام الأخيرة أن غياب وضوح التوقعات وضعف المحادثات المنتظمة حول الأداء بين المدير وموظفيه من أهم أسباب تراجع الانخراط وهدر الجهد داخل المؤسسات، بينما البيئات التي تجعل هذه المراجعات دورية ومحددة تحقق نتائج أفضل في الإنتاجية والاحتفاظ بالمواهب، فإن تحقق الإنصاف استمر البناء وإن لم يتحقق تحرّك صاحبه بسجلٍ يقرأه الآخرون بلغة الأرقام، وبهذا يحفظ حقه دون أن يعطّل حقه الأكبر في أن يتطور الآن لا حين تتوافق الظروف كلها.
ويبقى السؤال، هل نبقى أسرى معادلة أعطني حتى أعمل فنضع أنفسنا في خانة الموظف محدود الأثر، فنبقى بلا خبرة حقيقية أو وزن سوقي في عالم تشير تقارير المستقبل المهني فيه إلى موجات متلاحقة من تغيّر المهارات وفرز الكفاءات على أساس ما أنجزه الموظف لا ما ينتوي فعله، أم نختبر معادلة اعمل حتى تُعطى فنزرع أثرًا يفرض الاعتراف حيث نحن أو حيث سنكون لأن اليد العليا في عالم المهن هي يدٌ تبذل أولًا ثم تُجبر الواقع على أن يراها؟.



