في أية حقبة نعيش؟
هلا خباز
نعيش في أسوأ حقبة زمنية على جميع الأصعدة، ليس مجرد انطباع عابر، بل هو تعب يومي يتسلّل إلينا مع كل نشرة، وكل إشعار، وكل خبر ملوّن بالدم والفضائح. هذا هو ما أشعر به حينما أسمع نشرات الأخبار، وحينما أقلب المواقع والمنصات الإخبارية.. حروب، قوانين مجحفة، جرائم وانتهاكات، انعدام أخلاق، فضائح.. أغيّر القناة، أفتح منصة أخرى، فإذا بي أعود لنفس المشهد لكن بزوايا تصوير مختلفة. إلى أين؟ إلى متى؟ وماذا بعد؟
ومع كل منشور أو نشرة إخبارية أحدث نفسي وأقول، هذا هو القاع؟ وفي كل مرة يفاجئني خبر جديد بأن للقاع “قاعًا” آخر، وأن الحبل على الجرّار. فمنذ اختراع الهاتف الذكي، لم يَعُد العالم أكبر.. بل صار أقرب مما يجب، كل جريمة تُرتكب في قارة بعيدة تصل إلى سريرنا قبل أن نستيقظ، كل حرب تبث تفاصيلها لحظة بلحظة.. هذا ليس ازديادًا في الشرّ، بل تضخّمًا في رؤيتنا له. وفي عالم يحكمه اقتصاد الانتباه، يصبح الخوف محتوى قابلاً للمشاركة. والأغرب أننا بتنا نعتاد المشهد والخبر، لم يعد يدهشنا شيء، ولم تعد أجسامنا تقشعر عند سماع مصيبة.. بتنا مجرد أرقام بين مفقودين وقتلى ومظلومين. هل تغيّر الزمان فعلًا؟ أم تغيّرت طريقة رؤيتنا له؟ هل العالم اليوم أكثر عنفًا.. أم أكثر شفافية فقط؟
هذا الإحساس شخصي، لكنه ليس فرديًا؛ دراسات حديثة ربطت بين التعرّض الكثيف للأخبار السلبية وبين زيادة القلق، والمزاج المكتئب، والشعور بأن العالم مكان أسوأ ممّا هو عليه إحصائيًا، التعرّض المستمر للمشاهد العنيفة لا يقتل فقط طمأنينتنا، بل يهدد حساسيتنا الأخلاقية.
وبحسب عدة دراسات في التاريخ الجنائي في موقع vrc.crim.cam.ac.uk/ تبيّن أن معدلات القتل في أوروبا مثلًا كانت في العصور الوسطى أعلى بأضعاف مقارنة بعصرنا الحالي، ثم بدأت بالانخفاض التدريجي عبر القرون مع تطوّر الدول والقوانين.
إذا، العالم لم يتحوّل فجأة من جنّة إلى جحيم؛ العنف كان موجودًا دائمًا، لكن لم تكن هناك كاميرات للرصد موزعة في شوارع المدن، ولم يكن هناك إنترنت يبث لنا المآسي لحظة بلحظة، كانت الأخبار تمر عبر “غربال”، فلا تصلنا إلا بعد أن تبرد ويأكل نصفها الريح.
قبل بضعة عقود فقط، كانت دائرة “ما نعرفه” ضيّقة في نشرة الصباح ونشرة المساء، صحيفة صباحية تحمل خليطًا متوازنًا بين السياسة، الاقتصاد، الثقافة، والرياضة. أما الآن فنحن نعيش بين العواجل وزمن البث المباشر للكوارث “أرواحنا لا تهدأ”، إشعارات فورية من كل منصة، كأن العالم يصرخ في وجهك دون توقف. يقول الكاتب والفيلسوف مارشال ماكلوهان: “الوسيلة هي الرسالة، أي أن طريقة البث تؤثر على وعينا أكثر من المحتوى نفسه”.
ومن المفارقات العجيبة في علم النفس أن الإنسان لديه ما يسمى “انحياز السلبية”، أي أن عقولنا تتفاعل بقوة مع الأحداث السلبية مقارنة بالإيجابية، كآلة بقاء تطورت عبر التاريخ لتحذّرنا من الأخطار.
قدم عالم الاتصال جورج جيربنر في سبعينيات القرن الماضي نظرية الاستزراع (Cultivation Theory)، وقال ببساطة: “الإعلام لا ينقل لنا الواقع فقط، بل يزرع في أذهاننا تصورًا عن كيف هو العالم”.
ومن قلب هذه النظرية خرج مصطلح متلازمة العالم القاسي – Mean World Syndrome عن الأشخاص الذين يتعرضون بكثافة لمحتوى عنيف وعدواني يبدأون في الاعتقاد بأن العالم أخطر وأشد شرًا ممّا تشير إليه الأرقام الحقيقية.
وبالعودة لما سبق سنغير صيغة السؤال لتكون هل نحن فعلًا في أسوأ زمن أم في زمن متناقض؟
التاريخ لا يرحم، لو قارنّا عصرنا بقرون مضت، سنجد أن: متوسط العمر ارتفع، نسب الوفيات بسبب أمراض وأوبئة وحروب كاسحة انخفضت في كثير من المناطق، التعليم، وحقوق الإنسان (رغم كل الانتهاكات)، والتقدّم الطبي والتقني، جميعها شهدت تحسّنًا واضحًا.
لكن في المقابل نحن أمام حروب جديدة أكثر تعقيدًا، فجوات اقتصادية ضخمة، أزمات بيئية وإنسانية حادة.
لذا فالوصف الأدق لن يكون أسوأ حقبة، بل أشدّ الحقب وضوحًا أمام أعيننا، حيث لا يعود شيء مخفيًا، ولا يُترك لنا ترف الجهل.
هنا نستحضر قول الباحثة هانا آرِندت “حتى في أحلك الأوقات، يبقى لنا حقّ أن ننتظر شيئًا من النور”.
قد يكون زمننا مزيجًا معقّدًا من النور والظلام، من التقدّم والوحشية، من التكنولوجيا والخراب، لكن الطريقة التي نحكي بها قصّة هذا الزمن، لأنفسنا ولمن بعدنا، ستحدد إن كان هذا العصر من السقوط الأخلاقي الكامل أم أنه زمن مواجهة الحقيقة واستعادة إنسانيتنا وسط هذا الضجيج.
المصدر: جريدة البلاد



