عمر غازي

ما لا يعرفه الموظف ويريده صاحب العمل

ما لا يعرفه الموظف ويريده صاحب العمل

عمر غازي

هل يريد صاحب العمل أكثر من إنجاز المهمة في وقتها، أم أنه يفتش عن شيء أعمق لا يراه الموظف وهو غارق في تفاصيل يومه، في كل مؤسسة صوتان لا يسمع أحدهما الآخر بسهولة، صوت الموظف الذي يرى جهده الفردي، وصوت صاحب العمل الذي يرى الصورة كاملة بما فيها الرواتب والهوامش والمخاطر والسمعة، وبين الصوتين مسافة تصنع سوء فهم يهدر الطاقة ويؤخر الترقية ويعطل الثقة.

ما يريده صاحب العمل قبل المهارة أن تكون النتيجة قابلة للتكرار، فالذكاء يلمع مرة، لكن الاعتمادية تبني المؤسسة، لذلك يميل إلى من يسلّم العمل بنفس الجودة في كل مرة، من يضع تواريخ دقيقة ويلتزم بها، من يكتب ما فعل وكيف فعله لكي لا تبقى المعرفة محتجزة في رأس واحد، وهنا تتقاطع الرغبة العملية مع ما أشارت إليه أبحاث إدارية حديثة حول أثر التوثيق والوضوح التشغيلي في تقليل الأخطاء وزمن التسليم، فالجودة التي تُوثَّق تتحول إلى نظام لا إلى بطولات فردية.

يريد صاحب العمل الملكية (Ownership) لا المهام، لا يسأل فقط عما فعلت، بل عما وقع حين لم يفعل الآخرون دورهم، الموظف الذي يقول تم ما يخصني لا يكفي، بينما الموظف الذي يجمع الأطراف ويزيل العائق ويغلق الحلقة هو الذي يقترب من جوهر القيادة، وقد ربطت دراسات الارتباط الوظيفي بين حس الملكية وارتفاع الإنتاجية وانخفاض نوايا الاستقالة، فالمؤسسة تحتاج من يحمي المهمة لا من يحمي وصفه الوظيفي.

يريد صاحب العمل أثرًا يقاس لا ساعات تعد، فالأجر يصرف على القيمة لا على الزمن، لذلك يفرّق بين حركة كثيرة بلا نتيجة وبين تقدم صغير ثابت نحو الهدف، وقد بينت أبحاث في ديناميات الفرق أن الأمان النفسي شرط لعمل ذي أثر لأن الفرق التي تتجرأ على طرح المشكلات مبكرًا تنهي المشاريع أسرع وبأخطاء أقل، والصاحب العاقل لا يطلب صمتًا مطيعًا بل إنذارًا مبكرًا يقي المؤسسة كلفة التأجيل.

يريد صاحب العمل وضوحًا في الكتابة كما يريد براعة في التنفيذ، فالجمل المضببة تصنع قرارات مضببة، والبريد المقتضب الذي يحدد المطلوب والموعد والمسؤول يختصر اجتماعات طويلة، وتشير مراجعات إدارية إلى أن الشفافية العملية ترفع جودة القرار لأنها تقلل الاعتماد على الافتراضات وتزيد جودة التنسيق بين الفرق، فالكتابة الجيدة ليست ترفًا لغويًا بل أداة تشغيلية.

يريد صاحب العمل تعلمًا أسرع من تغير السوق، لا يهمه ما تعرفه بقدر ما تهمه سرعة ما تتعلمه، إذ تؤكد تحليلات المهارات القابلة للنقل أن قدرة الموظف على اكتساب أدوات جديدة وتبديل أطر التفكير تتنبأ بأدائه المستقبلي أكثر من سيرته الماضية، لذلك يقدّر صاحب العمل من يجرّب ثم يحسّن ثم يعمّم، لا من ينتظر شهادة لكل خطوة صغيرة.

يريد صاحب العمل زهدًا في الدراما ورغبة في الحل، فالمؤسسات تنهكها النزاعات الصامتة والتلميحات والاصطفافات، والموظف الذي يهاجم المشكلة لا الأشخاص يمنح المؤسسة وقتًا أطول للعمل ووقتًا أقل للتأويل، وتظهر دراسات الصراع البنّاء أن الأداء يرتفع حين توضع قواعد واضحة للخلاف وآدابه، فالمطلوب خلاف محترم لا انسجامًا زائفًا ينهار عند أول ضغط.

يريد صاحب العمل حسًا بالعميل حتى في الأدوار البعيدة عنه، فليس التسويق وحده من يخاطب السوق، كل قرار تقني أو مالي أو إداري له ظل عند عميل ما، والموظف الذي يسأل كيف سيشعر المستخدم بهذا القرار يقلل الحاجة إلى حملات إنقاذ لاحقة، وأدبيات التصميم المتمحور حول الإنسان تشير إلى أن قرارات صغيرة في الواجهة أو السياسة أو الرد الآلي تراكم ثقة أو تآكلها.

يريد صاحب العمل فهمًا لقيد الميزانية لأن المؤسسة ليست فصلًا دراسيًا بل كائنًا حساسًا للتدفق النقدي، كثير من قرارات الرفض أو التأجيل ليست تقليلًا من شأن الفكرة بل حماية لعمر تشغيلي محسوب، وإدراك هذه الخلفية يجعل الحوار واقعيًا ويحسن توقيت الطلبات، فوعي التكلفة جزء من جودة القرار لا خصم من الطموح.

يريد صاحب العمل بديلًا عنك كما يريدك، ليس لأنك قليل، بل لأن المؤسسة تخاف من نقاط الفشل الفردية، الموظف الذي يدرّب من يخلفه ويحفظ أثره في مستندات ويجهز خطة تسليم يزداد وزنه لا ينقص، لأن قيمته تنتقل من يده إلى نظام يدوم، والعمل الذي لا يُسلَّم على الورق لم يُنجز بعد في ميزان المؤسسة.

وفي المقابل ما لا يعرفه صاحب العمل أحيانًا أن الموظف يريد المعنى قبل المزايا، يريد أن يفهم لماذا يفعل ما يفعل، وأن يرى أثر عمله على منتج أو إنسان، وتظهر بحوث المعنى في العمل أن وضوح الغاية يضاعف المثابرة ويقلل الاحتراق، فالقيادة التي تشرح لماذا قبل ماذا تشتري ولاء يصعب شراؤه بمكافأة موسمية، إذ تبقى الجدوى أخف ثمنًا وأطول عمرًا من البدلات المؤقتة.

في النهاية لا يطلب صاحب العمل معجزة، يطلب إنسانًا يمكن الاعتماد عليه، يكتب بوضوح، يسلّم في الموعد، يتعلم بسرعة، يحسب التكلفة، يحمي المهمة، ويترك وراءه نظامًا يعمل حتى إذا غاب، ويبقى السؤال بلا إجابة، هل يرى الموظف الصورة كما يراها صاحب العمل، وهل يرى صاحب العمل الإنسان كما يرى نفسه، وأي الطرفين يبدأ بتقليص المسافة كي لا نخسر الجهد بين نية حسنة وتوقع لم يُنطق به؟

لمزيد من المقالات للكاتب عمر غازي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى