كُتاب الترند العربي

رئاسة الإنتوساي 2031–2034.. تتويج سعودي لقيادة الرقابة المالية الدولية

د.مساعد سعود الرشيدي

في خطوةٍ تعكس رسوخ البعد المؤسسي للحوكمة المالية في المملكة، أعلنَت الجمعية العامة للمنظمة الدولية للأجهزة العليا للرقابة المالية العامة والمحاسبة “الإنتوساي انتخاب المملكة العربية السعودية، ممثلةً بديوان المحاسبة، لرئاسة المنظمة ابتداءً من عام 2031 ولمدة ثلاث سنوات. ويواكب هذا التكليف استضافة الرياض وفودًا تمثل أكثر من 195 جهازًا رقابيًا من مختلف دول العالم، وذلك عقب انعقاد الدورة الخامسة والعشرين للجمعية العامة للإنتوساي في شرم الشيخ. هذه المعطيات ترسّخ مكانة المملكة لاعبًا مرجعيًا في منظومة الشفافية وكفاءة الإنفاق على المستوى الدولي.

الإنتوساي، بوصفها المظلّة المهنية للأجهزة العليا للرقابة، تضم اليوم 195 عضوًا كاملاً، إلى جانب أعضاء منتسبين وهيئات شريكة، وتُعد جهةً مساندة لمنظومة الأمم المتحدة. هذا الاتساع يُضفي على رئاسة المنظمة ثِقلاً يتجاوز البروتوكول إلى أثرٍ معياريٍّ ومعرفيٍّ مباشر على أساليب الفحص المالي وأدوات الرقابة الأداءية حول العالم. ومن ثمّ فإن انتقال دفة القيادة إلى الرياض يضع على جدول الأعمال الدولي خبرةً سعوديةً تراكمية في بناء أنظمةٍ رقابية متوازنة تُزاوج بين الالتزام النظامي والابتكار التقني.

من منظورٍ قانونيٍّ ومؤسسيّ، تحمل الرئاسة ثلاث رسائل عملية:

الأولى: ترسيخ استقلالية الأجهزة العليا وتحسين فاعلية الرقابة اللاحقة والسابقة على المال العام، بما يحدّ من مخاطر الهدر ويعزّز موثوقية التقارير المالية الحكومية.

الثانية: الارتقاء بالمعايير المهنية عبر توسيع تبنّي الأطر الإرشادية الدولية في التدقيق المالي والأداءي، بما يرفع جودة الأدلة ويُحسّن القدرة على تتبّع الأثر.

الثالثة: تحويل الشفافية من قيمةٍ أخلاقية إلى ممارسةٍ قابلة للقياس عبر مؤشراتٍ ومعايير أداء تُظهر الجدوى وتكشف الانحرافات في وقتٍ ملائم.

ولأن القيادة مسؤوليةٌ وبرنامج عمل قبل أن تكون لقبًا، فإن الرؤية السعودية للرئاسة يمكن أن تتجسّد في أربعة مسارات تنفيذية متكاملة:

  1. رقابةٌ تركّز على القيمة العامة: تعميم منهجيات “القيمة مقابل المال” وربط نتائج التدقيق بقرارات تخصيص الموارد، بحيث تتحوّل مخرجات الأجهزة العليا إلى مدخلٍ مباشر لسياسات كفاءة الإنفاق والحوكمة المالية.
  2. رقمنة دورة التدقيق: تسريع التحوّل إلى التدقيق القائم على البيانات الضخمة والتحليلات التنبؤية، وبناء منصات ترابط آنية مع الأنظمة المالية الحكومية، وتمكين الفرق الرقابية من أدوات كشف المخاطر آليًا مع الحفاظ على الضمانات الإجرائية.
  3. شفافية استباقية: إطلاق بوابةٍ معيارية مفتوحة للبيانات الرقابية غير السرية، تُقدَّم فيها مؤشراتٌ مقروءة للمواطن والباحث والإعلام المتخصص، بما يرفع جودة الحوار العام ويزيد كلفة الإخفاء ويُسند النزاهة بالأرقام.
  4. تمكينٌ إقليمي ودولي: الاستثمار في برامج بناء القدرات، مع إيلاء خصوصية للأقاليم ذات الاحتياجات التنظيمية والتقنية، والاستفادة من خبرة المملكة القيادية في المنظمات الإقليمية النظيرة لتعميق الأثر وتوحيد الأدوات.

إن رئاسة الإنتوساي ليست امتيازًا رمزيًا؛ بل التزامٌ بإعادة تعريف دور الجهاز الأعلى للرقابة بوصفه شريكًا في التنمية لا مجرد مُبلِّغٍ بالمآخذ. ومن هنا، تتقاطع اللحظة السعودية مع أجندةٍ عالميةٍ تتطلّب من الأجهزة العليا أن تتقدّم خطوةً نحو “الرقابة الاستشرافية”: رقابةٌ تُسائل المخاطر قبل وقوعها، وتُظهر خيارات السياسة المالية في ضوء أدلةٍ قابلة للتحقّق، وتربط، بشكلٍ مُحكم، بين سلامة الإجراءات ونتائج الخدمات العامة على المواطن.

خلاصة القول: تقود المملكة ابتداءً من 2031 منظومة الرقابة العامة الدولية في توقيتٍ تتعاظم فيه الحاجة إلى الثقة العامة وحُسن إدارة الموارد. والنجاح هنا يُقاس بقدرة الرئاسة على تحويل المعايير إلى ممارسة، والممارسة إلى نتائج، والنتائج إلى ثقةٍ متجددةٍ بين الدولة والمجتمع. تلك هي المعادلة التي تُعلي من شأن الشفافية بوصفها حقًّا عامًا، وتضع الحوكمة في مكانها الطبيعي: آليةً ضامنةً لجدوى المال العام، لا شعاراتٍ تُرفع ثم تُنسى.

المصدر: مساعد سعود الرشيدي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى