كُتاب الترند العربي

بدون مُقابل

داليا مجدي عبدالغني

القاعدة العامة أن لكل شيء مقابل، سواء مادي أو معنوي، فلابد من وجود مقابل حتى تستقيم المعاني، وتستقر الأوضاع، وتترسخ الحقوق، ويستمر العطاء، والحقيقة أننا بالفعل بحاجة دائمة للمقابل، حتى لو كان كلمة طيبة، أو نظرة حانية، أو ابتسامة رضا، فكلمة “برافو” تشحذ الهمم، وكلمة “شكرًا” تؤكد الامتنان، وكلمة “أحبك” تحفز المشاعر، هذا في حالة حديثنا عن المقابل المعنوي، أما المقابل المادي، فلا حاجة للحديث عنه لأنه دائم التوثيق بالعقود والاتفاقات، وغيرها من الوسائل التي تضمنه مقدمًا. ولكن هل يا تُرى لو لم يكن هناك مقابل سيستمر العطاء؟!

الحقيقة أن الزوجة تنتظر الاهتمام المادي والمعنوي من زوجها مقابل إخلاصها واهتمامها بشؤونه وبمنزله وبأطفاله، ورب العمل ينتظر الالتزام بواجبات وقواعد العمل حتى يقدم الأجر والامتيازات، والوالدين ينتظران الطاعة والبر مقابل التربية والحماية في الحياة، والصديق ينتظر الإخلاص ليقابله بالإخلاص، ولكن ماذا لو تيقن أحد الطرفين أن عطاءه سيكون بلا مقابل؟ أعتقد أن الغالبية العظمى ستؤكد ضرورة التوقف عن العطاء في الحال، لأن عكس ذلك سيخالف الناموس الطبيعي للحياة الذي جُبِلْنَا عليه منذ بدء الخليقة، وهذا ليس مُجافيًا للأخلاق أو القيم الإنسانية، لأن المولى عز وجل قد وعدنا الجنة ونعيمها مقابل الطاعة والعبادة والإيمان.

ولكن صدقوني، في بعض الأحيان يستمر العطاء رغم اليقين بعدم وجود مقابل، وهذا يحدث عندما نُعطي إرضاءً لمشاعرنا وقناعاتنا وسعادتنا التي نجدها في هذا العطاء، فالإنسان كثيرًا ما يفعل أشياء قد تبدو مُجافية للطبيعة الحياتية، في حين أنها تكون متوافقة تمامًا مع تركيبته البشرية، فهي ترضيه وتشعره بالرضا عن نفسه، فهو يجد ذاته في هذه السلوكيات، حتى لو سببت له بعض الآلام، ولكن عدم وجودها سيصيبه بالبؤس والشقاء والغربة عن نفسه.

وإليكم هذا الموقف الذي يؤكد أن هناك أمور نفعلها بمنتهى الحب والإخلاص، رغم أن هناك استحالة في أن يقابلها سلوك مادي أو حتى شعور معنوي.

لقد كان يذهب يوميًا لدار رعاية المسنين لتناول الإفطار مع زوجته رغم أن عمره اقترب من الثمانين، ولما سأله أحد الزوار عن سبب دخول زوجته لهذه الدار؟ أجاب بأنها منذ فترة طويلة وهي مصابة بمرض ضعف الذاكرة (الزهايمر)، فسأله: “وهل ستقلق زوجتك لو تأخرت عن الميعاد قليلاً؟” فأجاب: “إنها لم تعد تعرف مَنْ أنا.. إنها لا تستطيع التعرف عليَّ منذ خمس سنوات مضت”، فقال الزائر: “ولازت تذهب لتناول الإفطار معها كل صباح على الرغم من أنها لا تعرف مَنْ أنت؟!”، ابتسم الرجل وهو يضغط على يد الزائر وقال: “هي لا تعرف مَنْ أنا، ولكنني أعرف مَنْ هي”.

فسلوك هذا الزوج يُؤكد أن هناك مشاعر وتصرفات يقوم بها الإنسان دون انتظار المقابل، فهو يكتفي بشعوره وبقناعاته، حتى لو كان الطرف الآخر يستحيل عليه أن يقدم المقابل، فهو يجد لذته في إرضاء مشاعره تجاه زوجته، وفي قيامه بواجباته حيالها، حتى لو كانت غير مدركة لكل هذا، فهو على يقين من أنها لن تلومه أو تُعاتبه أو تُقاضيه أو تُطالبه.
ولكن إحساسه بالمسؤولية نابع من داخله، فهو الذي يُحركه، ويفرض عليه الإتيان بهذه السلوكيات، لأن ضميره ومشاعره هما مَنْ يُوجهان أفعاله، فأظن أن أسمى وأنبل شعور هو الذي لا ينتظر المقابل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى