كُتاب الترند العربيعمر غازي

الفجوة بين الموظف وصاحب العمل.. لماذا لا يفهم كل طرف معاناة الآخر؟

عمر غازي

في منتصف عام 2025 نشرت مؤسسة Gallup تقريرًا عالميًا عن أوضاع العمل أظهر أن نسبة انخراط الموظفين في أعمالهم هبطت إلى 21% فقط على مستوى العالم استنادًا إلى آراء أكثر من 128 ألف موظف في 160 دولة، وأن هذا المستوى من اللامبالاة والابتعاد العاطفي عن العمل يكلّف الاقتصاد العالمي نحو 8.9 تريليون دولار من الإنتاجية المهدرة، أي ما يقارب 9% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، اللافت في التقرير أن انخراط المديرين أنفسهم كان يتراجع هو الآخر، وأن كثيرًا منهم عالق حرفيًا بين ضغط المالكين في الأعلى وتوقعات الموظفين في الأسفل، يدافع عن استدامة الشركة من جهة ويحاول أن يبدو متفهمًا لظروف فريقه من جهة أخرى في موقعٍ قلّما يراه أحد كاملًا سوى من يجلس عليه فعلًا

هذه الصورة البحثية ليست حكاية عن شركة بعينها بقدر ما هي مرآة لفجوة عميقة في الفهم داخل كثير من أماكن العمل، صاحب العمل أو المدير التنفيذي غالبًا ما يكون قد عاش سنوات طويلة في مقعد الموظف، عرف معنى انتظار الموافقة على الإجازة، وقلق التقييم السنوي، والحيرة أمام أرقام الراتب وحاجات الحياة، وحين صعد إلى موقع القرار حمل معه ذاكرة شخصية لمعاناة الصفوف الدنيا، لكنه في الوقت ذاته حمل عبئًا جديدًا لم يختبره معظم موظفيه أبدًا، عبء التفكير اليومي في استدامة الشركة، في الرواتب والتدفقات النقدية والالتزامات القانونية، بينما الموظف البعيد عن الإدارة العليا لم يكن يومًا صاحب عمل ولا مسؤولًا عن مؤسسة بأكملها، فيرى وجعه اليومي واضحًا وجليًا ولا يرى إلا ظلًا باهتًا لما يمر به من هم فوقه في الهيكل التنظيمي.

أظهرت دراسة صادرة عن شركة Accenture عام 2020 أن 68% من القادة يعتقدون أنهم يوفّرون بيئة عمل مُمكِّنة يشعر فيها الموظفون بالانتماء، بينما لم يوافقهم سوى 36% من الموظفين أنفسهم، في حين كانت نسبة الموظفين الذين لا يشعرون بالاندماج عشرة أضعاف ما يتصوره القادة، هذه الأرقام ترسم بدقة ملامح الفجوة الإدراكية بين من يجلس في مقعد القيادة ومن يعيش التفاصيل اليومية في أسفل السلم، فالقائد مقتنع بأنه يبذل ما في وسعه ليصنع بيئة عادلة بينما ينظر جزء معتبر من العاملين إلى الصورة نفسها فيراها باردة أو غير مكترثة أو مشغولة بأولويات أخرى لا تشبه همومهم المباشرة

ولم تقف الدراسات عند حدود الانتماء العام بل امتدت إلى ملف الصحة النفسية في العمل بوصفه أحد أكثر الملفات حساسية في السنوات الأخيرة، حيث أظهر مسح عالمي أجرته McKinsey عام 2021 أن هناك فجوة متوسطة قدرها 22 نقطة مئوية بين تقييم أصحاب العمل وتقييم الموظفين فيما يخص أبعاد الصحة النفسية وجودة بيئة العمل، إذ يميل القادة إلى النظر إلى سياساتهم وبرامجهم باعتبارها داعمة وكافية بينما يرى جزء كبير من الموظفين العكس، هذه الفجوة في الإدراك لا تعني أن أحد الطرفين يكذب بالضرورة لكنها تكشف أن كل طرف يعيش واقعًا مختلفًا قليلًا عن الآخر، المدير في غرفة الاجتماعات يظن أنه قدّم ما يكفي، والموظف في مكتبه الصغير يشعر أنه تُرك وحيدًا أمام ضغوط متزايدة لم تُترجم إلى دعم حقيقي كما يتصور

وفي تقرير آخر أصدرته PwC عن الثقة في بيئة العمل عام 2024 تبين وجود فجوة قدرها 26 نقطة مئوية بين نظرة التنفيذيين ونظرة الموظفين لمستوى الثقة بين الطرفين، حيث قال 86% من القادة إنهم يثقون بقوة في فرقهم، بينما لم يتجاوز من رد من الموظفين بثقة مماثلة تجاه رؤسائهم 60%، أي أن القائد يشعر في داخله أنه يمنح الثقة وأن مشكلته مع نقص التزام الموظفين، في حين يرى الموظف أن المشكلة في الأساس هي عدم ثقته في نوايا الإدارة وقراراتها، وهكذا يتبادلان الاتهام في دائرة مغلقة سببها أن كل طرف يقيس الوضع من موقعه وحده دون أن يجرب الوقوف لحظة في مكان الآخر

على مستوى أوسع أظهر “تقرير Edelman Trust Barometer” الخاص بالثقة في مكان العمل عام 2022 أن الثقة داخل المؤسسة نفسها ليست كتلة واحدة متجانسة، إذ قال 79% من الموظفين إنهم يثقون بزملائهم في العمل أكثر من أي طرف آخر، بينما تراجعت نسبة الثقة في المدير المباشر والـ CEO إلى مستويات أدنى، رغم أن التقرير نفسه أكد أن “صاحب العمل” ككيان يظل من أكثر المؤسسات التي تحظى بثقة الناس مقارنة بالحكومة والإعلام، ما يقوله هذا التناقض أن الموظف يشعر بقربٍ إنساني من من يعملون معه كتفًا بكتف، لكنه في الوقت نفسه يحتفظ بمسافة حذر تجاه من يتخذون القرارات الكبرى حتى لو لم يكن قادرًا دائمًا على صياغة سبب هذا الحذر في جملة واضحة

في ضوء هذه الأرقام يصبح سؤال الشفافية أكثر تعقيدًا مما يبدو في النظرة الأولى، هل من الواجب على صاحب العمل أو المدير أن يكشف للموظفين تفاصيل ما يمر به من ضغوط مالية واستراتيجية لكي يفهموا لماذا لا تتحقق كل مطالبهم في الوقت الذي يريدون، أم أن هذه الدرجة من المكاشفة قد تخلق ذعرًا لا يحتمله من لم يجلس أبدًا أمام ميزانية كاملة أو توقعات سوق مضطرب، كثير من القادة يترددون في فتح الأوراق بالكامل خشية أن تُقرأ بلغة القلق لا بلغة الشراكة، بينما يميل الموظفون إلى تفسير أي غموض في القرارات على أنه تجاهل لمعاناتهم أو تقديم لمصالح الملاك على حسابهم، وهكذا تتحول نوايا الحماية إلى مصدر لاتهامات ضمنية لأن المسافة في الفهم لم تُجسَر بحوارٍ كافٍ.

الوجه الآخر للمسألة أن جزءًا من الموظفين يطالبون بحدٍّ أقصى من التعاطف من الإدارة دون استعدادٍ حقيقي لممارسة التعاطف المضاد، أي أن يسأل الواحد منهم نفسه ماذا لو كنت أنا من يوقع على التزامات الرواتب والقروض والعقود، هل كنت سأتصرف بالسهولة نفسها التي أطالب بها الآن، الدراسات التي ترصد تدهور الصحة النفسية للمديرين أنفسهم تشير إلى أنهم يدفعون ثمنًا لا يُرى في أرقام التقارير، فقد أظهرت تحليلات حديثة مرتبطة بتقارير Gallup أن انخراط المديرين هبط إلى 27% في 2024 وأن تراجع حماس هذه الفئة تحديدًا ساهم في مئات المليارات من الإنتاجية المفقودة لأن تعب القائد يتسرب إلى الفريق كله، كما أشارت تقارير أخرى إلى أن نسبة كبيرة من التنفيذيين يعترفون بأن وظائفهم تضر بصحتهم النفسية أكثر مما يتصور الموظفون الذين يراقبون القرار من الخارج دون أن يلمسوا كلفته الإنسانية اليومية

من جهة أخرى يكشف “تقرير حالة مكان العمل” الذي تلخصه Gallup في نسخ متعاقبة أن مجرد وضوح التوقعات بين المدير والموظف لم يعد مضمونًا كما كان، فقد أظهرت بيانات منشورة عام 2024 أن نصف الموظفين فقط يصرحون بأنهم يعرفون بوضوح ما هو متوقع منهم في أعمالهم اليومية، وهي نسبة أقل بكثير مما كانت عليه قبل أعوام، ومع غياب هذا الوضوح يتحول كل قرار إداري تقريبًا إلى مادة قابلة للالتباس، يستقبله الموظف وهو لا يرى الصورة الكاملة لمسؤولياته ومسؤوليات من فوقه، فتزداد فجوة الفهم وتتسع المساحة التي تملؤها التأويلات الشخصية بدل المعنى المشترك

يبقى السؤال إذن هل المطلوب أن يقدّم المدير شفافية مطلقة تجعله يخرج كل همومه على الطاولة حتى لو لم يكن الفريق مستعدًا لقراءتها، أم المطلوب أن يتعامل الموظف مع الإدارة العليا بوصفها خصمًا مفترضًا يفاوضه على كل امتياز دون أن يعترف بعبء حقيقي تحمله في الخفاء، ربما يكون الطريق الأصدق في المنتصف، شفافية محسوبة لا تستسهل إخفاء الحقائق ولا تفرط في تحميل الموظف ما لا يحتمل من قلق، تقترن بجهد واعٍ من الموظف نفسه ليطوّر ما يمكن تسميته “خيالًا إداريًا” يضع به نفسه ولو ذهنيًا في مقعد صاحب القرار، يسأل كيف كان سيتصرف لو كان مسؤولًا عن الشركة كلها لا عن وظيفته وحدها، وكيف كان سينظر إلى مطالبه لو رأى الميزانية الكاملة لا رقم راتبه فقط.

إن مسافة الفهم بين صاحب العمل والموظف ليست قدرًا لا يمكن تغييره، لكنها لن تُردم بالشكاوى المتبادلة ولا بالشعور الدائم بالظلم من الطرفين، بل بأن يعترف المدير أن حاجته إلى الصراحة لا تعفيه من واجب الشرح بلغة يفهمها من لم يمر بتجربته، وأن يعترف الموظف أن حاجته إلى التقدير لا تعفيه من واجب النظر بعينين لا بعين واحدة، عين ترى تعبه اليومي وعين ترى القلق الذي يسكن من يحاول في الطابق الأعلى أن يحمي المركب من الغرق، عندها فقط يمكن أن تتحول الشفافية من عبء لا يُفهم إلى جسر حقيقي للفهم، ويتحول التعاطف من شعار عاطفي إلى ممارسة متبادلة لا يظل فيها أحد الطرفين تحت رحمة تصورات الآخر وحده عن العالم الذي يعيش فيه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى