
الثقة المصطنعة في سوق العمل
عمر غازي
في منتصف 2025 نشر باحثان من “جامعة تسينغهوا” في بكين دراسة على منصة SSRN حلّلا فيها ملفات 727 محللًا ماليًا على “LinkedIn” وراجعوا توقعاتهم لأسعار أسهم 3336 شركة عبر عدة سنوات، وانتهت الدراسة إلى نتيجة صادمة ظاهريًا حيث وُجد أن المحللين الذين يستخدمون لغةً متضخمة وحماسية في وصف أنفسهم كانوا في المتوسط أقل دقة في توقعاتهم من زملائهم الأهدأ نبرة، ومع ذلك كانوا أكثر حظًا في الحصول على الترقيات في المدى القصير، أي أن المبالغة في صناعة الصورة نجحت مؤقتًا في إخفاء ضعف الأداء لكنها لم تغيّر أرقام الكفاءة الفعلية التي بقيت تسجّل كل خطأ بدقة باردة.
هذه القصة البحثية تشبه إلى حد بعيد نصائح منتشرة اليوم في المحتوى السريع، صور تحمل عبارات من نوع لا تبدأ كلامك بقول “لست متأكدًا” ولا تُظهر أي تردد أمام زملائك، استخدم لغة حاسمة واثقة دائمًا كي تزيد تأثيرك في بيئة العمل، كأن المشكلة كلها في جملة واحدة تسبق ما نقوله لا في حقيقة ما نقدمه، مع أن سوق العمل ليس مقابلة عابرة ولا محادثة واحدة بل احتكاك يومي متكرر يجعل أي لعبة خطابية تعيش عمرها القصير ثم تنكشف عند أول اختبار جاد بين القول والفعل.
دراسة أخرى صادرة عن “جامعة أريزونا” ونشرت عام 2022 في دورية علمية مفتوحة على موقع “PubMed Central” اختبرت هذا المعنى من زاوية مختلفة، إذ قاس الباحثان “مارتن رايمن” و”أوليفر شيلكه” أثر أساليب إدارة الانطباع على الثقة، وبيّنت النتائج أن الأشخاص ذوي الكفاءة العالية يفقدون جزءًا من رصيد الثقة عندما يبالغون في الترويج لأنفسهم مقارنة بمن يتركون أداءهم يتكلم أكثر من كلماتهم، فالقدرة وحدها تكفي غالبًا لكسب الثقة، لكن ضجيج التفاخر يزرع في نفوس الآخرين شعورًا بأن المتحدث يحاول تغطية شيء ما لا أن يصفه بدقة.
على المستوى الأعمق جاء عمل “جاستن كروغر” و”ديفيد داننغ” منذ 1999 في “Journal of Personality and Social Psychology” ليضع اسمًا لظاهرة تتكرر في حياتنا اليومية، حيث بيّنت سلسلة تجارب أن الأقل مهارة في أي مجال هم الأكثر ميلًا إلى تضخيم تقديرهم لقدراتهم لأنهم لا يملكون الأدوات المعرفية التي تسمح لهم برؤية قصورهم بوضوح، بينما يميل الأكفأ أحيانًا إلى التقليل من شأن نفسه لأنه يدرك حجم ما يجهله، هذا ما عُرف لاحقًا بتأثير “Dunning–Kruger”، وإذا جمعنا هذا التأثير مع ثقافة ترفض سماع “لا أعلم” وتُكافئ الجواب السريع مهما كان، فسوف نجد أنفسنا أمام بيئات عمل ترفع أصحاب الصوت الأعلى لا أصحاب القدرة الأعمق وتمنح المنبر لمن يتقن فن الجملة القاطعة لا فن الحل الدقيق
لكن هذه الآليات لا تصمد طويلًا في الاحتكاك اليومي، فالمقابلة الأولى أو العرض التقديمي قد يُخدعان بنبرة الواثق الذي لا يتردد ولا يعترف بعدم اليقين، غير أن زملاء العمل وزبائن الشركة يعيشون مع الشخص نفسه يومًا بعد يوم، يرون طريقة تعامله مع التفاصيل، مع الضغوط، مع الأخطاء، مع الملفات التي تحتاج صبرًا لا جملة واحدة، وهنا تظهر نتائج ما سمّته مراجعة منشورة عام 2019 بعنوان “Impression (Mis)Management” أن محاولات إدارة الانطباع يمكن أن تنقلب على صاحبها عندما لا ينسجم الخطاب مع السلوك، فيتحول الإعجاب الأولي إلى شك، ثم إلى قراءة متحفزة لكل حركة وكلمة بحثًا عن الفجوة بين ما يقال وما يقع في الواقع.
العمل داخل الشركات يضيف طبقة أخرى من الاختبار، لأن العلاقة ليست لقاءً متباعدًا بل تكرارًا مستمرًا، الموظف الذي يحاول أن يغطي نقص كفاءته بعبارات مثل “بحسب خبرتي” و”أنا متأكد تمامًا” قد ينجح في تمرير مشروع واحد أو إقناع مدير جديد لبعض الوقت، لكنه حين يُسأل عن التفاصيل مرة بعد مرة، وحين تُقارن وعوده بنتائج أرقامه في التقارير، يتكوّن حوله رأي حقيقي لا تصنعه الجمل المنمقة، رأي يتلخص في أن هذا الشخص لا يمكن الاعتماد عليه مهما كانت طريقته في الحديث جذابة في البداية، ومع الوقت تتحول هذه السمعة غير المعلنة إلى عائق صلب أمام أي دور أكبر أو مسؤولية أوسع.
في الجهة الأخرى تقدم أدبيات “القيادة الأصيلة” صورة معاكسة تمامًا لهذه الخدعة اللفظية، فقد نشرت “Frontiers in Psychology” عام 2022 دراسة لعدد من الباحثين في جنوب إفريقيا حول أثر القيادة الأصيلة على ازدهار الموظفين، وانتهت النتائج إلى أن القادة الذين يظهرون قدرًا أعلى من الصدق والاتساق بين أقوالهم وأفعالهم ويعترفون بحدود معرفتهم عند الحاجة يخلقون مستوى أعلى من الثقة والرفاه النفسي لدى فرقهم عبر وسيط مهم هو شعور الموظف بدعم المنظمة وثقته بها، ودعمت دراسات أخرى بين 2023 و2024 في مجلات إدارة الموارد البشرية هذا الاتجاه، مبينة أن القيادة التي تبني ثقتها على الواقعية لا على الإيهام تزيد اندماج العاملين وتقلل نوايا ترك العمل على المدى البعيد.
المفارقة أن جملة بسيطة مثل “لست متأكدًا” ليست هي المشكلة في ذاتها، المشكلة في أن تقال ثم لا يتبعها فعل، الموظف الذي يقول “لست متأكدًا لكن سأتحقق وأعود لكم بحلول مقترحة” يبني في كل مرة طبقة من الثقة لأنه يربط اعترافه بالجهل المؤقت بحركة واضحة نحو التعلم، أما من يُصر على ادعاء اليقين في كل موضوع ثم تتكشف ثغراته مرة بعد أخرى فإنه يدمّر رصيده بيده، ويؤكد ما تقوله دراسات الثقة أن استعادتها أصعب كثيرًا من بنائها لأول مرة وأن محاولات التجميل بعد انكشاف اللعب تصبح جزءًا من المشكلة لا جزءًا من الحل.
الخرافة إذن ليست أن الشك يضعف تأثيرك دائمًا، بل في الاعتقاد أن حذف الشك من الجملة كفيل وحده بصناعة صورة مهنية صلبة، بينما الواقع يقول إن سوق العمل لا يتعامل معك مرة أو مرتين كي تنطلي عليه الفكرة، بل يختبرك في مشاريع واجتماعات وأزمات تمتد سنوات، ومن يراهن على الألاعيب اللفظية قد يكسب لقطة واحدة في مسيرته لكنه يخسر الفيلم كله، لأن الزملاء والعملاء والمديرين لن يتذكروا بعد أعوام ما إذا كنت قد بدأت جملة معينة بعبارة “لست متأكدًا” أم لا، بل سيتذكرون شيئًا واحدًا، هل كنت حين تقول “سأفعل” تفعل فعلًا، أم كنت تكتفي بأن تبدو واثقًا ثم تترك الأرقام تتكلم ضِدك لا لصالحك.



