
المسيرة المهنية بعد الأربعين.. قوة الصعود المتأخر في سوق العمل
عمر غازي
حين ترك “موريس تشانغ” مساره الوظيفي الطويل في شركات التقنية الأمريكية وانتقل إلى تايوان ليؤسس شركة “TSMC”، كان قد تجاوز الخامسة والخمسين، لم يكن شابًا يافعًا يبحث عن أول فرصة بل رجلًا قضى عقودًا بين الهندسة والإدارة والأزمات والتقلبات، ومع ذلك كانت انطلاقته الكبرى بعد هذا العمر لا قبله، الشركة التي أسسها تحولت لاحقًا إلى عصب صناعة الرقائق الإلكترونية في العالم، هذه الحكاية ليست استثناءً رومانسيًا بقدر ما هي نافذة على حقيقة إحصائية تقول إن ما نسمّيه “الصعود المتأخر” ليس عبئًا في سوق العمل بل قوة إذا أحسن صاحبها قراءة ما تراكم في مسيرته وتحويله إلى قيمة يمكن قياسها.
الخوف من تأخر المسار المهني لا يأتي من الأرقام بل من المقارنات السريعة، ينظر الموظف في الأربعين أو بعدها إلى صور قصص النجاح الباكر في الإعلام فيظن أن الوقت المثالي قد مضى، يراقب من وصلوا إلى مناصب قيادية في الثلاثينيات فيحاكم نفسه بمعيارٍ لا يراه إلا على سطح الحكايات، بينما سوق العمل وقطاع الأعمال لا يحسم أحكامه باللقطات القصيرة بل بالمنحنيات الطويلة، تلك التي تتتبع عشرات الآلاف من المسارات المهنية عبر سنوات وتقول بهدوء إن نضج الفرص لا ينتهي عند حد معين من العمر بل يزداد وضوحًا كلما تراكمت الخبرة واتسعت الرؤية.
في عام 2020 نشرت “American Economic Review: Insights” دراسة واسعة اعتمدت على بيانات ملايين أصحاب الأعمال في الولايات المتحدة بين 2007 و2014، خلصت الدراسة إلى أن متوسط عمر مؤسسي الشركات الأعلى نموًا يقارب 45 عامًا، وأن احتمالية بناء شركة ناجحة ترتفع بوضوح لدى من هم في منتصف العمر مقارنة برواد الأعمال الأصغر سنًا، إذ أظهر التحليل أن مؤسسًا في سن 50 أكثر ترجيحًا لنجاح شركته من مؤسس في سن 30، لا لأن السنوات تمنح امتيازًا تلقائيًا بل لأنها تراكِم معرفة بالقطاع وسلوك السوق وشبكات العلاقات تجعل قراراته أقل تهورًا وأكثر التصاقًا بالواقع.
ودعمت “Kauffman Foundation” هذه الصورة في تقاريرها عن ريادة الأعمال حين أشارت إلى أن أعلى معدلات الدخول إلى عالم الأعمال الجديدة تأتي من الفئة العمرية بين 45 و54 عامًا، وأن نسبة من يبدأون مشاريعهم بين 55 و64 عامًا تتزايد عامًا بعد عام، أي أن الطريق إلى المبادرة في قطاع الأعمال لا يغلق أبوابه عند الثلاثين كما يوحي الخطاب السريع، بل يظل مفتوحًا لمن استطاع أن يحوّل ما تعلمه في مساره الوظيفي إلى مشروع أو دور قيادي جديد، في لحظة يكون فيها فهمه لما يجري داخل السوق أعمق بكثير من بداياته الأولى.
أما في داخل الشركات الكبرى فالأرقام تسير في الاتجاه نفسه وإن اختلفت اللغة، حين أصدرت “Spencer Stuart” تقاريرها عن الرؤساء التنفيذيين في شركات “S&P 500” أظهرت البيانات أن متوسط عمر الرئيس التنفيذي عند تعيينه يدور حول أواخر الخمسينيات، وأن هذا المتوسط ارتفع تدريجيًا خلال العقد الأخير، ما يعني أن مجالس الإدارة في أكبر الكيانات المدرجة أصبحت ترى في العمر المتقدم نسبيًا رصيدًا من الخبرة عبر دورات اقتصادية متعاقبة أكثر مما تراه عبئًا، فالمطلوب في قمة الهرم لم يعد فقط القدرة على الحماس والخطابة بل القدرة على توجيه شركة كاملة وسط أزمات وأسواق متقلبة استوعب القائد دروسها في مواقع أقل قبل أن يصل إلى هذا المقعد.
الدراسات التي تتناول العلاقة بين العمر والإنتاجية تضيف بعدًا آخر إلى الصورة، إذ تشير تحليلات نُشرت في دراسات أوروبية حول “العمر والإنتاجية” إلى أن الأداء المهني في الأعمال المعرفية لا يبلغ ذروته في العشرينيات كما يتخيل البعض، بل يتحرك غالبًا في منحنى يتصاعد من أواخر العشرينيات حتى الأربعينيات، ويظل قويًا في الخمسينيات ما دامت بيئة العمل قادرة على توجيه خبرة العامل إلى مهام تحتاج حكمًا وتجربة لا سرعة عضلات فقط، ومعنى ذلك أن ما بعد الأربعين يقع في قلب سنوات القيمة الأعلى في كثير من المهن التي تقوم على التفكير والتحليل وإدارة الفرق لا على الجهد البدني وحده.
وفي عام 2025 نشرت دورية علمية مرموقة دراسة تتبعت نحو 35,000 مسار في مجالات العلوم والموسيقى والرياضة والشطرنج، ووجِد أن ذروة الإنجاز في المجالات ذات الطابع المعرفي والإبداعي لا تتركز في العشرينيات بل تميل إلى الظهور في الأربعينيات والخمسينيات، وأن كثيرًا من “النجوم” الذين نظنهم قصصًا مبكرة عاشوا في الواقع سنوات من المحاولة الصامتة قبل أن يظهروا في المشهد العام، هذه الصورة الكاملة تكسر الوهم الذي صنعته قصص النجاح المختصرة التي تلمع في صفحات التواصل ثم تختفي معظم تفاصيلها خلف عنوان من سطرين.
على أرض الواقع داخل الشركات والقطاعات يمكن أن ترى هذه النتائج دون قراءة سطر واحد من الدراسات، الموظف الذي يدخل الأربعين يحمل معه عادة سجلًا من المواقف والأزمات والتجارب مع زملاء ومديرين وعملاء وموردين، يعرف كيف يتعامل مع غضب عميل مهم، وكيف يلتقط الإشارات المبكرة لتغير اتجاه الإدارة أو السوق، وكيف يقرأ لغة الأرقام في التقارير لا بوصفها صفوفًا من البيانات بل قصصًا عن حركة النشاط والربح والخسارة، هذه القدرة لا تُمنح في دورة تدريبية ولا في كتاب واحد، بل تتكون ببطء عبر سنوات الاحتكاك التي لا يلتفت إليها كثيرون وهم يكررون على أنفسهم أن العمر يتقدم وأن الفرص تضيق.
المسيرة المهنية بعد الأربعين تتعرض لظلم مزدوج، من ثقافة ترى أن ما لم يتحقق قبل هذا العمر لن يتحقق أبدًا، ومن أشخاص داخل هذه المرحلة يستسلمون لهذه الفكرة فيحوّلونها إلى نبوءة تحقق ذاتها، يتوقف البعض عن التعلم المنظم بحجة أن زمن الدراسة قد مضى، ويرفض آخرون تغيير مسارهم أو تطوير أدواتهم لأنهم يخافون أن يبدوا مبتدئين في مجال جديد، وهكذا تتحول قوة الصعود المتأخر الكامنة في تراكم الخبرة إلى حمل ثقيل لا يُستفاد منه، مع أن القطاع نفسه يحتاج إلى من يجمع بين فهم نظري قديم وقدرة على تحديثه في ضوء ما يستجد من تقنيات وتوجهات.
قوة الصعود المتأخر في سوق العمل لا تأتي من العمر في ذاته بل من موقف صاحبه من ما مضى وما تبقى، من استعداد الموظف ذي العشرين عامًا خبرة لأن يعيد قراءة مساره فيرى فيه ما يمكن تحويله إلى عرض قيمة واضح، ومن جرأة رائد الأعمال الذي يقرر أن يستخدم ما تعلمه في عشرات المشاريع التي عمل فيها موظفًا كي يبني مشروعه الخاص وهو يعرف خريطة الأخطاء المحتملة مسبقًا، ومن قابلية الإنسان بعد الأربعين لأن يراجع أولوياته فلا يبقى أسير سباق المقارنة مع من هم أصغر سنًا بل يصنع سباقه الخاص مع ما يستطيع هو أن يقدمه الآن بأدوات لم تكن لديه في العشرين.
يبقى أن سوق العمل في النهاية لا يقرأ تاريخ الميلاد في السيرة الذاتية بقدر ما يقرأ طبقات الأثر المكتوبة تحت كل منصب، ما المشاريع التي حوّلت المعرفة إلى نتائج، ما الفرق التي بُنيت ونضجت، ما العمليات التي تحسنت، وما القرارات التي أنقذت شركة من خطر أو فتحت لها بابًا جديدًا للنمو، هنا يظهر الفرق بين مسيرة توقفت عند نقطة ما ثم قضت بقية الطريق في التفرج على الآخرين، ومسيرة قررت بعد الأربعين أن تعيد ترتيب ماضيها لتصنع منه صعودًا متأخرًا لكنه متين، لأن القوة الحقيقية ليست في أن يصل الإنسان أولًا، بل في أن يصل إلى موقع حين يصل يكون قادرًا على البقاء والعطاء، لا على الاحتفال العابر قبل أن يختفي اسمه بهدوء خلف أسماء جديدة.



