للماضي الذي يسكننا
هلا خباز
أرسلت لي تسألني.. تخيلي أنك داخل غرفة كبيرة مسكونة بكل الأشخاص الذين مروا في حياتك، على من ستبحثين؟ ولمن ستركضين؟.
وبإجابة لم تأخذ مني ثوانٍ للتفكير قلت لها.. جدي
لم تكن حياتي خالية يومًا من الأشخاص، الكثير الكثير منهم، أعترف أن الحنين يأخذني إليهم في الكثير من الليالي، وإذا لم يحملني حنيني إليهم تحملني إليهم خواطر يا ليتني قلت، ويا ليتني ما انتظرت.. ويا ليت عمرها ما عمرت بيت.
ولكن حنيني لجدي يكاد يفطر قلبي، حنين تحركه المعلومة، صورة بالأبيض والأسود، بأغنية عالبال الذي شاركني رقصها طفلة، بنقشة قماش تذكرني بربطة عنقه، بفنجان شاي بارد قدمته له شربه وهو يقول لي: لا تقل للشاي غلى حتى ترى البخار في الجو على، بوعاء شوربة جاهزة شربه مجاملة وهو يقول: ما بتعرفي طعمة تمك.
ما علينا نرجع لأصل السؤال وعمقه، للنوستالجيا وتشبثنا بنسمات الماضي وخوفنا من الذكريات حينما تداهمنا فتقلب موازين حاضرنا، للصندوق الذي تغنت به أصالة نصري ومستنا جميعًا على اختلاف أعمارنا، جنسياتنا وتجاربنا.
تقول سيدة الكلمة “أحلام مستغانمي”: “إنه الحنين لما تركناه خلفنا ولن نعود إليه. أماكن جميلة تتمنّى لو أنك لم ترها حتّى لا تحزن. لحظات باهرة، تندم أنك عشتها كي لا تتذكّر رجال مدهشون، تودّ لو أنك لم تلتق بهم، كي لا تبكيهم ما بقي من عمر ، كما لو أنهم رحلوا”.
هل نحِنُ فعلًا للماضي أم لمن كانوا جزءً منه؟
هل نحِنً لهم أم لمن كنا عليه في ذلك الوقت؟
وعن هذا الشعور السهل الممتنع يقول محمود درويش : ” الحنين هو زائر المساء، حين تبحث عن آثارك في ما حولك ولا تجدها”.
هل ينتهي الماضي حقًا، أم أنه يتابع حياته داخل رؤوسنا؟ سؤال تطرحه علينا “غادة السمان” في رسائل حنينها للياسمين، لتستطرد وصفها للحنين “معلقون نحن على حافة الأشياء ، بلا سقوط ولا تحليق، في منزلة بين المنزلتين خارج الموت والحياة، داخل الاحتضار البطيء”.
معلقون نحن بحبال تكرار التجربة، وبأن الأشياء لا تحدث مرة واحدة فقط، وأن تلك البسمات التي ترتسم حينما نستعيد كلماتهم ستعود كنسمات باردة تدغدغ شفاهنا ببسمة جديدة، وبأن أريج العطر الذي يذكرنا بهم سيحملهم لنا مرة أخرى.
ويا ليتهم يعلمون أننا أسرى للكلمات، لفناجين القهوة، للمواقف التي تكبر في دواخلنا وتشكل عقد محكمة تربطنا بهم حتى وإن رحلوا، عقد تنسل خيوطها عند أول ليلة يثور فيها بركان الحنين.
“شؤون صغيرة تمر بها أنت .. دون التفات تساوي لدي حياتي جميع حياتي حوادث.. قد لا تثير اهتمامك أعمر منها قصور وأحيا عليها شهور وأغزل منها حكايا كثيرة وألف سماء وألف جزيرة”.. صدق “نزار قباني”، وصدق الروائي السوداني “الطيب صالح” حينما قال: “كل هذه الأشياء الصغيرة أم الكبيرة التي تكبل الإنسان بقيود يشتد وثاقها يوماً بعد يوم وتجعله يصمت حين يجب أن يصرخ”.
ولنختم اليوم بسؤال بدأناه.. للذكريات الصغيرة وللحنين الكبير، لو نظمت رحلة تأخذك إلى مدينة نشأتك، لمقعد مدرستك، لمنزل جارتك، لطاولة طعام جدتك، هل ستذهب؟