“كوبو يجول المدينة” في الرياض
د. وليد سيف
تضمَّنت فعاليّات مؤتمر النقد السينمائي بالرياض الذي انعقد من 9 حتى 12 نوفمبر الماضي العديد من الندوات والورش والبرامج الجادة، وأيضًا الأفلام المختارة الكلاسيكية والحديثة، وكذلك عروض تحت عنوان الأعمال الفنية، وهي أعمال تختلف عن الأفلام التقليدية في أساليب التصوير أو العرض أو التلقي.
من بين ما شاهدتُه من أعمالها: الفيلم الكوري «كوبو يجول المدينة» Kubo walks the city، للفنانة هايون كيون من إنتاج 2021، بتقتية الـ3d، وكان أكثرها إثارةً للمتعة، وقد عُرض بالمعرض الفني بقصر الثقافة عرضًا مستمرًّا طوال أيام المؤتمر كغيره من برامج الأعمال الفنية، لكنه -وحسب ما شاهدت- حظي بالإقبال الأكبر، بل إن كثيرًا من الحضور أعادوا مشاهدته أكثر من مرة وكنت واحدًا منهم، ربما بصورة يومية.
ينتمي الفيلم إلى ما يُسمى أفلام الواقع الافتراضي، وهي نوعية من الأفلام تختلف نوعًا عن الفيلم التفاعلي، حيث كثيرًا ما يحدث الخلط بينهما، فالفيلم التفاعلي أقرب لألعاب الفيديو، يحتوي على مقاطع فيلمية مسجلة مسبقًا، ويمكن للمشاهد الاختيار من بينها لبعض الأحداث من بين الاقتراحات المتاحة المقدمة له.
فمثلًا يمكنه أن يختار بين استسلام الشخصية لمصيرها مع أعدائها، أو مقاومتهم والانتصار عليهم، أو ظهور شخصية جديدة تتمكن من إنقاذها. هكذا يشكل المُشاهد الأحداث التي يراها طبقًا لاختياراته.
أمّا فيلم الواقع الافتراضي الذي ينتمي إليه بجدارة «كوبو يجول المدينة»، فلا مجال للاختيار، إنما خلال المشاهدة وعبر جهاز سمعي وبصري يضعه المشاهد على رأسه، حيث لا ترى عيناه سوى ما هو ظاهر أمام نظارة الجهاز، ولا يستمع إلا لما يصدر منه، بذلك ينفصل تمامًا سمعيًّا وبصريًّا عما يدور خارج هذا الجهاز، ثم يخضع بكيانه حركيًّا إلى التوجيهات التي يتلقاها من الجهاز، فيتحرك للأمام والخلف ويمينًا ويسارًا، ليتواصل مع أحداث الفيلم الذي يعيش داخله، مستغرقًا كليًّا مع العالم الافتراضي الذي يشاهده، منفصلًا تمامًا عن الواقع الحقيقي، وكل ما يحيط به داخل قاعة مخصصة ومعدة لتتناسب مع تحركاته طبقًا لما يسمعه من الجهاز.
تعيش مع «كوبو يجول المدينة» تجربة افتراضية كاملة لمدة 15 دقيقة، كأنك أنت «كوبو» بطل القصة أو الحكاية، تجول خلالها داخل المدينة على غراره محققًا تجربته، تركب عربة المترو بين الركاب، تقف بينهم وتراقب حركاتهم شبه الراقصة، تخرج منه عند محطة الوصول، تتجول داخل القاعات والمقاهي والشوارع والقصور وساحات الملاعب في أزمنة ماضية، تهبط داخل بحيرة لتنتقل إلى عالم افتراضي آخر داخل العالم الافتراضي الأساسي، تعيش الزمن الماضي في أماكن مختلفة، إنه ليس فيلمًا تفاعليًّا على النمط الذي بدأ يسود، لكنه فيلم يضع المشاهد فقط داخل الواقع الافتراضي طوال زمن العرض، من خلال خطوات قصيرة يخطوها ليواصل المتابعة.
إنها في الحقيقة نفس خطوات كوبو في مدينة سيول الكورية في عام 1934 حيث كانت كوريا تحت الاحتلال الياباني، تتغير المناظر التي تدخلها عبر رسوم كاريكاتورية متقنة ذات طابع ساخر، لكنها شديدة الإتقان في عرضها للأماكن والوجوه والأجسام، وتتعرف من خلالها عبر الشريط الصوتي على صورة من واقع المجتمع الكوري في ظل تحولات جذرية وحالة من التناقض يعيشها بين رفضه للاحتلال وتعرفه على الحياة العصرية من خلاله.
كل هذا في السنوات التي مهدت لدخوله العصر الحديث، ساعيًا وراء الحرية والاستقلال الذي تحقق بعد تلك السنوات الحبلى بعدة سنوات، إنها سنوات السعي نحو التحرر من الفقر والعادات والتقاليد السائدة والدخول في ركب الحداثة، فتتعرف على الحياة في بلاط القصور والغابات والمناطق الخلوية، ثم تتعرف على تجربة وطنية في غاية الأهمية في الاستاد وأنت داخله وبالقرب جدًّا من بطل رياضي كوري تكاد تلمسه بيديك، تراه وهو يتربع على منصة التتويج على بُعد خطوات قليلة منك وهو ينتزع أول ميدالية أوليمبية لبلاده في برلين.
من خلال كوبو يجول المدينة تتحقق لديك حالة من الفرجة الممتعة التي تعيشها في داخل الفيلم، تكاد الشخصيات الافتراضية أن تصطدم بك وهي تتحرك حولك، لا تحتاج سوى خطوة واحدة لتدخل إلى المترو، وقد تتردد قليلًا دون أن تخطو بقدميك لتدخل إلى البحيرة، لكنك سرعان ما تتذكر أنك في عالم افتراضي؛ فلن تغرق أو حتى تبتل. تتحقق لك أيضًا متعة معرفية بالتعرف على جانب من تاريخ بلاد لم تعرفها، وربما لن يُتاح لك أن تزورها أبدًا في حياتك، كما تعيش لحظات الفخر بالانتصار الأوليمبي كأنك واحد من مواطنيها.
تتألق الصورة ببراعة تشكيلية وتكوينات تتفق مع خصوصيتها، فمجالها أوسع بكثير من صورة الفيلم المعتاد، تمتد إلى 360 درجة، فيمكنك أن تشاهد الجوانب الجديدة منها وأنت تتحرك أو تلتف دورة كاملة لترى تفاصيل كثيرة ومتنوعة، كما تعتمد الأحداث على وقائع حقيقية تُحقق للعمل طابعًا تسجيليًّا، فهو عمل عابر للأنواع يجمع بين الواقع الافتراضي والصورة الكارتونية والطبيعة التسجيلية.
ابتكر الكاتب الكوري الحداثي تايون شخصية كوبو منذ نحو مئة عام، عبر من خلالها عن شخصية كاتب مضطرب يحاول الهروب من هموم والدته، يجول في الشوارع يتأمل العالم لينخرط فيه ليخرج من وحدته، كأنه يخلق لذاته عالَمًا افتراضيًّا موازيًا مستمدًّا من الواقع. وقد أعاد الفيلم الافتراضي شخصية «كوبو» للوجود، كما أعاد اكتشافَ هذا الأديب الكوري الرائد الذي بدأ شاعرًا وفازت قصيدته «الأخت الكبرى» (نونيم) بتقدير مشرف في مسابقة أدبية، كما حصل على جائزة كاتب الخيال عام 1929 بنشر قصته القصيرة «اللحية»، وقد انتقل إلى كوريا الشمالية، وأصبح أستاذًا في جامعة بيونغ يانغ للآداب. وفي عام 1956، مُنِع من الكتابة، ولم يسترد هذا الحق إلا في عام 1960.
في اعتقادي أن موضوع «كوبو» مناسب جدًّا لطبيعة الفيلم الافتراضي، كما أن المعالجة والأسلوب يعبر عن موهبة وخبرة في هذا المجال لصانعة العمل هايون كوون، فهي مخرجة لها خبرة في مجال الواقع الافتراضي، شاركت في تأسيس ستوديو العالم الافتراضي، تتناول في أعمالها موضوعات مثل التراث والتاريخ والسياسة، وتسعى لتحقيق التوازن بين السرد القصصي والتفاعلية الأرضية، وذلك بتوظيف تقنية الواقع الافتراضي. وقد نالت طبقًا لنشرة المؤتمر جائزة القصص المصورة من مهرجان تريبيكا السينمائي في دورته لعام 2022.
المصدر: سوليوود