صراع المادة والقيم
عمر غازي
في خمسينيات القرن الماضي، وتحديدًا في اليابان التي كانت تلملم جراحها بعد الحرب العالمية الثانية، وقف كونوسوكي ماتسوشيتا، مؤسس شركة باناسونيك، أمام خيار صعب، حيث ألحّ عليه شركاؤه لتخفيض أجور العمال من أجل زيادة الأرباح في ظل أزمة اقتصادية خانقة، لكنه رفض بصرامة قائلًا: “إذا فقدنا ثقة الناس بنا، فلن نكسب شيئًا أبدًا، فالعمل لا يزدهر إلا إذا ازدهر الناس معه”، لم يكن هذا القرار مجرد موقف عابر، بل كان مبدأً وضعه ماتسوشيتا أساسًا لنجاحه، حيث رأى أن القيم يجب أن تحكم العمل وأن المادة ليست إلا وسيلة لخدمة الإنسان.
لم يكن التمسك بالقيم في ذلك الوقت خيارًا سهلًا، لكن التاريخ أنصفه، فقد أصبحت “باناسونيك” لاحقًا واحدة من أكبر شركات الإلكترونيات في العالم، ولم يُنظر إلى ماتسوشيتا فقط كرجل أعمال ناجح، بل كقائد استطاع أن يجعل من الأخلاق والإنسانية بوابة للنجاح الاقتصادي بعيدًا عن الجشع والربح الأعمى.
لا خلاف على أن المادة هي عصب الحياة، وهي الوسيلة التي يحتاجها الإنسان لتحقيق الكرامة والعيش الكريم، لكنها حين تتحول من وسيلة إلى غاية تفقد معناها، حين يصبح النجاح مجرد تراكم للأموال يُطرح السؤال الأهم: ماذا عن القيم؟ ماذا عن الأخلاق؟ وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2021، فإن 60% من الأفراد يعتقدون أن القيم الأخلاقية تراجعت بشكل ملحوظ في المجتمعات التي أصبحت ترى النجاح مرادفًا حصريًا للثروة، كما كشفت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2020 أن 72% من الشباب يربطون النجاح في الحياة بامتلاك الثروة المادية أكثر من تحقيق الراحة النفسية أو خدمة المجتمع، بينما كانت هذه النسبة لا تتجاوز 40% في السبعينيات، مما يشير إلى تحول خطير في أولويات الأجيال.
غياب التوازن بين المادة والقيم يفتح الباب لجشع لا سقف له، فالمادة بلا أخلاق تخلق عالمًا متوحشًا، حيث تُصبح العلاقات قائمة على المنفعة البحتة ويغيب الضمير لتحل مكانه معادلات الربح والخسارة، من ناحية أخرى، فإن القيم وحدها دون سعي مادي تجعل الإنسان مثاليًا عاجزًا عن مواجهة واقع الحياة وتحدياتها، التاريخ يعلمنا أن المجتمعات التي ازدهرت حققت هذا التوازن الدقيق، حيث كانت المادة أداةً في خدمة القيم وليست سيدةً عليها، ففي دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2019، تبين أن الشركات التي تضع معايير أخلاقية صارمة في إدارتها تحقق نموًا سنويًا بنسبة 30% أكثر من نظيراتها التي تركز فقط على المكاسب المالية، بينما أظهرت دراسة أخرى أجرتها جامعة أكسفورد أن المنظمات التي تدمج قيم المسؤولية الاجتماعية في سياساتها تحتفظ بنسبة 85% من عملائها على المدى الطويل مقارنة مع الشركات التي تهمل هذه الجوانب.
في المقابل، فإن الرقابة الذاتية المستمدة من الوازع الديني والأخلاقي تظل الحارس الحقيقي لهذا التوازن، حين يتحول المال إلى أمانة وليس مجرد ملكية، وحين تُصبح الثروة وسيلة لتحقيق الخير العام لا مجرد استعراض شخصي، يَخرج الإنسان من أسر المادة إلى رحابة الإنسانية، في هذا السياق أكدت دراسة أجرتها منظمة الشفافية الدولية عام 2022 أن المجتمعات التي ترتفع فيها معايير النزاهة والأمانة تشهد معدلات أقل في الفساد بنسبة 50% مقارنة مع المجتمعات التي تهيمن فيها قيم الجشع والانتهازية، هذه النتائج لا تُظهر فقط تأثير القيم على السلوك الفردي، بل تسلط الضوء على دورها في تشكيل واقع اقتصادي واجتماعي أكثر استقرارًا.
المادة ضرورة، نعم، لكنها بلا قيم تُصبح لعنة، فالقيم تُجمّل الحياة وتجعل المال مصدر بناء لا مصدر هدم، ولعل السؤال الذي يواجه الإنسان اليوم هو: كيف نُعيد ترتيب أولوياتنا بحيث لا تُفسد المادة جوهر إنسانيتنا؟ ربما تكون الإجابة أبسط مما نظن، وهي أن نُدرك أن الغنى الحقيقي ليس في الأرصدة بل في الضمائر التي لا تُباع ولا تُشترى، فكما يقول المثل الشعبي “اللي ديته فلوس رخيص”.