“سعد عرفة”.. مؤلف سينمائي ظلمه تاريخ السينما
عصام زكريا
مرُّ أكثر من قرنٌ على مولد المخرج سعد عرفة، أحد الأسماء الخاصة جدًّا في السينما المصرية، كما مر أكثر من نصف قرن على واحد من أفضل أفلامه وأكثرها إثارة للجدل، وهو فيلم “غرباء”، الذي عُرض 1973، وكان سابقًا لزمنه في طرحه الفكري وأسلوبه الفني.
عادة ما يقرن جمهور السينما الحالي اسم سعد عرفة بأنه والد المخرجين المصريين شريف وعمرو، ولا يعرف الكثيرون أنه كان أديبًا وكاتب سيناريو ومنتِجًا ومُخرِجًا صاحب أسلوب ووجهة نظر، ربما لأن أفلامه لا تعرض كثيرًا، وربما لأن أعماله ذات البصمة الخاصة ليست من النوع الذي يستسيغه الجمهور بسهولة، إضافة إلى كونها تعاني أنَّ تنفيذها لم يكن على مستوى طموحها الفني.
وُلِد سعد عرفة في الأول من إبريل 1923، ورحل عن خمسة وسبعين عامًا في 1998. بدأ عمله في السينما، خلال العصر الذهبي للسينما المصرية في نهاية الأربعينيات والخمسينيات مُراقبَ سيناريو «المشرف على تنفيذ السيناريو داخل الموقع»، ومُساعد مخرج، قبل أن يقوم بإخراج أول أعماله، وهو «لقاء في الغروب»، 1960.
خلال مسيرته الطويلة قام سعد عرفة بإخراج عشرين فيلمًا، شارك في كتابة معظمها، بجانب إنتاجه لعدد منها، وهو، مع عدد قليل جدًّا من المخرجين المصريين، ينتمي لما يُعرف بسينما المؤلف.
يُمكن القول إن معظم، إن لم يكن كل، أعمال سعد عرفة تتناول العلاقة بين الرجل والمرأة، في تشابكها مع التقاليد والتحريمات والتعقيدات الاجتماعية المختلفة.
بعض هذه الأفلام ينتمي للميلودراما التقليدية للستينيات مثل “لقاء في الغروب”، و”مع الذكريات”، و”دنيا البنات”، ولكن منذ بداية السبعينيات بدأت أفلامه تتخذ منحًى أكثر جرأة في الأفكار والطرح، وقد سيطر على هذه الأفلام اتجاهان متناقضان: التماشي مع موجة التحرر التي شهدتها المجتمعات والسينمات الغربية في هذه الفترة، ومن ناحية ثانية صعود التيار المتشدد دينيًّا في المجتمع المصري، الذي سعى للانغلاق والفصل بين الجنسين وتحريم التفكير والفن، وتكفير الغرب وكُل ما يأتي منه.
يبدو سعد عرفة، بداية من فيلم “بيت من رمال”، 1972، الذي كتبه وأخرجه وشارك في إنتاجه مهمومًا بشكل خاص بالصراع بين نمطين من الثقافة والحياة: النمط الليبرالي الغربي، والنمط الشرقي المحافظ. ويروي الفيلم قصة حب بين شابين صغيرين: الابن عصام “علي كمال” من أسرة عصرية، تعمل أمه «سناء جميل» صحفية وكاتبة تنادي بالحرية، بينما الحبيبة أمينة “بوسي” من أسرة محافظة، ترفض زواجهما، فيهرب الحبيبان، ويحاولان الزواج، ولكن الفيلم ينتهي بشكل مأساوي يدين المجتمع والنظام على ما لحق بالشابين.
على المستوى الفني ينتمي «بيت من رمال» إلى حقبة السبعينيات الأوروبية، بداية من عناوين الفيلم المنفذة بطريقة الكولاج من صور ورسوم متحركة، إلى أسلوب التصوير التجريبي، الذي يشبه اللوحات التشكيلية، والتي برع فيها مدير التصوير عبد العزيز فهمي، إلى قلة الحوار والاعتماد على المَشاهد الصامتة الطويلة، التي تكتفي برصد التفاصيل الصغيرة لحياة الشابين، إلى مشاهد الحب الجريئة، بمقاييس تلك الفترة، والحديث بشكل صريح عن الحب الجسدي.
النظرة المتشائمة لنتيجة هذا الصراع بين التحديث والرجعية تتخذ منحًى أكثر قتامة في فيلمه التالي «غرباء»، 1973، الذي يطرح القضية بطريقة مباشرة وشجاعة وأكثر صدامية.
يعتمد الفيلم على قصة لسعد عرفة، وقام بكتابة السيناريو والحوار واحد من أهم كتاب السيناريو المصريين آنذاك «الذي تحوّل إلى مخرج أيضًا لاحقًا» وهو رأفت الميهي.
عُرض الفيلم بعد شهور من عرض «خلي بالك من زوزو» للمخرج حسن الإمام، الذي حقق أعلى إيرادات في تاريخ السينما المصرية حتى ذلك الوقت، واستمر عرضه لأكثر من عام كامل. أما «غرباء» فحظي بالفشل الجماهيري بالرغم من أن موضعه يتشابه مع «زوزو»، وبطلاه هما بطلا فيلم «زوزو» «سعاد حسني وحسين فهمي» مضافًا إليهما نجوم كبار منهم شكري سرحان وعزت العلايلي وعماد حمدي. من الطريف أيضًا أن الفيلمين تعرّضا للهجوم الإعلامي والنقدي، ما أسفر عن زيادة شعبية «زوزو»، وأدى إلى إيقاف عرض «غرباء» بحجة أنه يثير التشتت والبلبلة الفكرية، والأغرب من ذلك أنه «يدور في نطاق فلسفي قد يؤدي إلى إلحاد بعض من ليس لديهم إيمان قوي بالله»!
يدور “غرباء” حول نادية «سعاد حسني»، الحائرة بين أخيها المتطرف دينيًّا، أحمد «شكري سرحان» الذي يريد منعها من العمل والخروج من البيت، وأستاذها في الكلية فؤاد عبيد «عزت العلايلي» المفكر العلماني المؤمن بالعلم وضرورة التخلص من الخرافات والمعتقدات القديمة وحبيبها سمير «حسين فهمي» الشاب المرفّه الذي يغار عليها من فؤاد عبيد، ويريد أن يصادر حريتها.
نادية تشبه أيضًا أمينة، بطلة فيلم «أنا حرة» «صلاح أبو سيف، 1959» الباحثة عن ذاتها بين رجال كل منهم مشغول برجولته بطريقة مختلفة، لكن الفارق هو زيادة التطرف في الاتجاهين المتعاكسين، العلماني والمتشدد دينيًا، إلى حد التحوُّل من شخصيات من لحم ودم إلى كائنات «جروتسكية» مشوهة. كذلك يختلف في النبرة المتشائمة التي ينتهي بها الفيلم، حيث ينتحر فؤاد عبيد، ويدمن سمير المخدرات، بينما الأخ الذي كان يعتقد أنه معصوم من الخطأ يدخل في علاقة غير شرعية مع الجارة اللعوب. بعد فشل «غرباء» يتجه سعد عرفة إلى عمل فيلم تجاري تمامًا وهو «رحلة العمر»، من بطولة مريم فخر الدين وأحمد مظهر وشمس البارودي في واحد من أدوارها الجريئة الأولى.
ما ينتاب المتأمل لأعمال سعد عرفة الشك في أن أفلامه نفسها مصابة بحالة الفصام التي تعانيها شخصياته. وفيما يبدو أنه هوس بمَشاهد الحب، التي غالبًا ما تتقاطع «عبر المونتاج» مع مشاهد المساجد والصلاة والمصاحف والمتشددين المهددين بالويل والثبور، فإن هذا الهوس يعكس، ربما أكثر مما نجد عند مخرج عربي آخر، علاقة هذا الفصام بالموقف من الجنس، بين الكبت والانفلات. بل يبدو أحيانًا أن الجنس هو المشكلة في حد ذاته، وليس انتهاك الحرمات الجنسية. أبطال سعد عرفة دائمًا لديهم مشكلة مع الجنس، وهم في أغلب الأحيان يصابون بالجنون أو الاكتئاب أو الموت بسبب علاقتهم المضطربة بالجنس.
يتضح ذلك بشكل لا لبس فيه في فيلمه الأخير «الملائكة لا تسكن الأرض»، الذي يعيد رواية الصراع النفسي بين التحرر والتطرف، بين الروح والجسد، من خلال شخصية علي «ممدوح عبد العليم» الذي تعرض لتربية «دينية» متزمتة على يد أبيه عمران «إبراهيم عبد الرازق»، ما يخرب علاقة الحب الوحيدة التي عاشها مع ابنة عمه أمينة «بوسي» التي تربت باعتدال، وقادرة على تحقيق التوازن بين التحرر والالتزام، فيما علي يظل يتذبذب كالمكوك بين التطرف والانفلات، ما يدفعه لصعود الفنار المطل على البحر ومحاولة الانتحار.
جدير بالذكر أيضًا أن سعد عرفة، منذ فيلمه الأول وحتى الأخير، هو أكثر المخرجين المصريين تصويرًا لأعماله في المدن المطلّة على البحر، وخاصة الإسكندرية، ما يكشف جانبًا آخر من روحه المتطلعة للحرية واتساع الأفق.
المصدر: سوليوود