كُتاب الترند العربي

هواجس منتصف العمر

هواجس منتصف العمر

هلا خباز

الحياة بتجمعنا وبتفرقنا، وبنرجع نجتمع بالأحباب بعد طول غياب، ومن قصة لقصة وين صرنا؟ وكيف مرّت الحياة معنا، شو عملنا؟

وسألتني سؤال كنت أحاول تنحيته جانبًا، لئلا يداهمني، وهو من الأسئلة التي تحاول جاهدًا أن تهرب من إجابتها حينما تطلّ عليك بابتسامتها الصفراء، سؤال حقيقي وحارق كالملح الذي يُسكب على الجرح، سؤال أخذني لطريقي الحلو اللي ما عرفت أمشي فيه.

هي لحظة صدق بتجينا مرة بالحياة، منركّز فيها على الركض وعلى المسافة اللي قطعناها، لا لنرى ولنقيس إنجازاتنا، بل لنتساءل: “هل كان يستحق؟”

أو كما يقول باولو كويلو: “في لحظةٍ ما، علينا أن نتوقف عن الركض، لا لنعترف بالهزيمة، بل لنفهم: هل كنا نركض في الاتجاه الصحيح؟”

نركض خلف الأحلام، نلهث خلف الفرص، نبني مستقبلنا على الاحتمالات، ولكننا نصل إلى لحظة صامتة، بلا تصفيق، بلا انتصار، وكأن كل شيء مرّ عبثًا.

هل خُدعنا؟ أم كنا نركض خلف ما لا يناسبنا؟ أم أن لكل شيء وقته، وأن الوصول المتأخر يحمل حكمة لا ندركها إلا بعد الانطفاء؟

هناك تعب لا يُكافأ، وسعي لا يُقدّر. تمر بنا مراحل نكون فيها الأشد حماسة، والأكثر اندفاعًا، ومع ذلك لا تُفتح لنا الأبواب.

نتشبث بفرص نعتقد أنها قد تغيّر مصيرنا، لكنها تنفلت من أيدينا كالماء. نحاول مرارًا، ومع كل محاولة تتآكل فينا رغبة الوصول، إلى أن نصبح غرباء عن أحلامنا القديمة. وكأننا نقف على أرض مغمورة بالمياه أمضينا عمرًا نحرثها، فأغرقها الطوفان.

تقول أحلام مستغانمي بهذه المناسبة: “عجيبة هي الحياة بمنطقها المعاكس. أنت تركض خلف الأشياء لاهثًا، فتهرب الأشياء منك. وما تكاد تجلس وتقنع نفسك بأنها لا تستحق كل هذا الركض، حتى تأتيك هي لاهثة. وعندها لا تدري، أيجب أن تدير لها ظهرك أم تفتح لها ذراعيك، وتتلقى هذه الهبة التي رمتها السماء إليك، والتي قد تكون فيها سعادتك.. أو هلاكك”.

المفارقة المؤلمة أن بعض الأشياء لا تأتي إلا حين نكفّ عن الترقب، حين نكون قد فقدنا الشغف، وانطفأت فينا الرغبة. هل كان لزاماً علينا أن نعيش على بقايا فرص لم تكتمل، نقتات على “ماذا لو” و”كان من الممكن”، فنثقل قلوبنا بندمٍ لا ينضب؟

لكن ربما، تلك الفرص لم تكن لنا منذ البداية. وربما ما حسبناه ضياعًا كان نجاة. ولكن، ما المعنى خلف كل هذا؟

ربما في عمق هذا الركض، تكمن الإجابة. أن الحياة لا تقيس النجاح فقط بالوصول، بل أحيانًا يكمن المعنى في التجربة ذاتها، في التشوهات التي تعرضنا لها ونحن نركض، في الخيبات التي جعلتنا أكثر عمقًا… ويقول قائل: هل كان لزامًا أن أمرّ بكل هذا لأصل؟

ليست كل الطرق تؤدي إلى النهايات التي خططنا لها، لكن كل الطرق تعلّمنا شيئًا. نصلها وقد خفّ حماسنا، تعبنا، وانتهى وقتها. أليس لكل أذانٍ ساعة؟

ما الحكمة من الوصول حينما تتغير ملامح الطريق، حينما نفهم بأن الوصول لم يعد يشبهنا؟ كأن نصل متأخرين عن الحفلة، نتناول وليمتها باردة بعد أن ذهب كل المعازيم!

نصل منهكين، غير قادرين على الابتسام وعلى الفخر بالإنجاز، نصل لنتساءل: هل كان لكل ذلك التعب معنى؟

في لحظة من التعب الداخلي، من الزهد في الأحلام، يحدث أمر غريب: نصل. ولكن، لا كما كنا نرجو، ولا نحن كما كنا. وكأن الحياة أحيانًا تُصمم لتعطينا دروسًا في السقوط، لا في الوصول.

لكافكا مقولة جميلة تعبّر عن الهدف من الرحلة، فيقول: “الطريق الحقيقي يمرّ بحبل مشدود، لا يمتد على ارتفاع، بل قريب جدًا من الأرض. يبدو أن الغرض منه هو التعثر فقط”.

مع الوقت، يتسلل الفتور. ليس لأننا ضعفاء، بل لأن الركض المستمر دون ثمر يجعل من الشغف عبئًا.

وكعادة المتصوفين الذين يرون القسم الممتلئ من الكأس، يأتي جلال الدين الرومي بمسحة حانية على الجرح ويقول: “عندما تسير كل الأشياء ضدك، تذكّر أن الطائرة تقلع عكس اتجاه الريح”.

ولا يختلف ألبير كامو بنظرته التفاؤلية كثيرًا عن ابن الرومي حينما قال: “في منتصف الشتاء، اكتشفت أخيرًا أن في داخلي صيفًا لا يقهر.” فرغم ضياع الفرص، يبقى فينا شيء لا ينكسر.. الرغبة الخفية في المعنى، في التماسك، في البقاء واقفين رغم كل شيء.

أو كما قال الشاعر الفلسطيني غسان كنفاني الذي أمضى حياته يحلم: “إن الإنسان إذا كان في طريقه لتحقيق حلم، فليس مهمًا كم يتعثر، المهم أن لا يتنازل عن الحلم”.

لكن، ماذا لو حلّقنا بعدما كففنا عن الحلم؟ ماذا لو أتانا الفرج بعد أن جفّ فينا نبع الانتظار؟

هل سيكون لكل ذلك معنى؟

لمَ قُدّر للكثير منا أن يقتات على فرصٍ ضائعة؟ أن يرضى بأحلام مبتورة؟ وأن يأكل بعد أن تُغمّس لقمته بالعرق؟

في الحياة، لا كل تعب يُثمر، ولا كل وصول يُشبهنا.

لكن كل لحظة خيبة، كل ركضة في العتمة، كل تعب بلا نتيجة… يصقل شيئًا فينا، يربّينا بطريقة لا تُدرّس، ويقودنا – شئنا أم أبينا – إلى شكلٍ جديد من الفهم.

“نركض أكثر حين نقترب من النهاية، كأننا نحاول اللحاق بحياةٍ سبقتنا.” هكذا عبّر محمود درويش عن سعينا وركضنا الدائم.
قد نصل متأخرين، وقد نكون غير راغبين، ولكننا وقتها نكون أكثر نضجًا، أكثر حكمة، وربما أقل احتياجًا للانتصار.

ليس لأننا لم نعد نحلم، بل لأننا تعلّمنا أن في كل انكسار حياة، وفي كل ضياع هداية، وفي كل فشل دعوة لأن نكون أكثر إنسانية، لا أكثر نجاحًا.

إننا نركض، بأشكال مختلفة — نحو هدف، ضد خيبة، بعيدًا عن ماضٍ، أو فقط لنشعر أننا نتحرك. لكن حين نقف فجأة ونتساءل: هل كان لكل هذا الركض معنى؟ فإننا لا نبحث عن إجابة بقدر ما نبحث عن راحة، عن تبرير، عن لحظة صمت وسط ضجيج السعي.

لنختتمها مع أصدق القول لهاروكي موراكامي: “أنا أجري لأتذكر أنني ما زلت حيًا، أنني لا أجري فقط من أجل الفوز، بل لأفهم نفسي أكثر”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى