الأردن والغياب السينمائي
مشاعل عبدالله
لا تزال ذاكرة أجيال من السعوديين تمتلئ بمشاهد درامية لأبطال الدراما الأردنية، خصوصًا المسلسلات البدوية التي كان لها حضور وجماهيرية بين مختلف أفراد المجتمع، فحكايات الصحراء وقيمها وأسرارها كانت منجمًا نجح صنّاع الدراما التلفزيونية الأردنية في اكتشاف جواهر لا يمكن نسيانها مثل: وضحى، وابن عجلان، وزمن ماجد، وراعية الوضحا، ومتعب الشقاوي، وراعي الأوله.
لم تقتصر علاقة السعوديين مع الدراما الأردنية على المسلسلات البدوية التي تشكل الصحراء بكل ما فيها نقاط تقاطع وتشابه بين المملكتين، لكن الدراما التي تتناول المدينة والقرية ومعضلات سكانها، كانت تلقى رواجًا كبيرًا مثل: مسلسل التراب المر، ومسلسل الشريكان، المشهور بين الجمهور بـ”سمعة ومرزوق”. كان انتشار الدراما التلفزيونية الأردنية قبل دخول الدش البيوت السعودية، ومع منتصف التسعينيات تقلصت جماهيرية هذه المسلسلات.
اللافت أن هذا الزخم على صعيد الدراما التلفزيونية لا يقابله وجود على الخارطة السينمائية. فالسينما الأردنية ذات تجارب محدودة ولا يقارن إنتاجها بالدول المحيطة بها، مثل: لبنان وسوريا وفلسطين؛ إذ يبدو أن التشابك والتقارب لا يتعلق فقط بالوضع السياسي والاجتماعي، ولكن حتى في الإنتاج السينمائي، ومثال ذلك أن بعض الأفلام الفلسطينية كُتبت وأُخرجت من قبل صناع سينما أردنيين، لكنها محسوبة على السينما الفلسطينية وتناقش مشاكل وأوضاع الفلسطينيين.
هذا التباين في صناعة السينما بين الأردن وجيرانه، يطرح حزمة من الأسئلة على شاكلة: كيف تزدهر صناعة السينما؟ هل صناعة السينما مرتبطة بالإبداع، أم الدعم المادي؟ هل السينما والأعمال الفنية ملزمة بالتعبير عن قضايا المجتمعات، أم هي وسيلة للترفيه؟
تبدو منطقة الهلال الخصيب منطقة ساخنة سياسيًا، والإنتاج السينمائي مرتبط ارتباطًا مباشرًا بقضاياها، وانعكاس الأوضاع السياسية على الأفراد وعلاقاتهم وأحلامهم وإحباطاتهم، لكن الأردن يملك سينما عقيمة مقارنة بالسينما الفلسطينية واللبنانية الخصبة، ويرتكز معظم الإنتاج السينمائي الأردني على الأفلام القصيرة مع أفلام روائية طويلة قليلة تعد على أصابع اليد الواحدة.
يعتبر فيلم الدراما والمغامرة “ذيب” أشهر الأفلام في تاريخ السينما الأردنية، والفيلم من تأليف وإخراج ناجي أبو نوار، وصدر عام 2014. يبدو أن ناجيًا من محبي الواقعية الإيطالية الجديدة، فأبطال فيلم «ذيب» ممثلون غير محترفين لدرجة أن المخرج اضطر إلى الاستغناء عن المشاركة النسائية في الفيلم لعدم وجود سيدة من القبائل البدوية في المنطقة على استعداد للقيام بالتمثيل والانضمام لطاقم العمل. يقدم الفيلم صور بصرية مغرقة في شاعريتها عن الصحراء، وتحديدًا وادي رم، في فترة حكم العثمانيين إبان الحرب العالمية الأولى. ولا يغفل العمل عن تفاصيل الحياة البدوية، ويتجلى ذلك في لقطة الافتتاح، وحضور الشعر النبطي الوريث الشرعي للشعر العربي، كما يقول أستاذ الأنثروبولوجيا الدكتور سعد الصويان، وحتى نهاية الفيلم، مرورًا بكل التحديات التي يمر فيها ذيب وتكون نجاته متزامنة مع تراكم معرفته بقيم ومعارف الصحراء.
قوبل الفيلم باحتفاء عالمي، فقد فاز بجائزة لجنة التحكيم لأفضل تصوير من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي لعام 2014، وجائزة أفضل مخرج ضمن قسم آفاق جديدة في مهرجان فينيسيا السينمائي، وتقدير معنوي محلي لدرجة أن الملك عبدالله الثاني استقبل طاقم العمل في قصره.
قبل فيلم “ذيب” بسبع سنوات تقريبًا قدّم أمين مطالقة فيلم” كابتن أبو رائد”، وتولى فيه مطالقة مهمة الكتابة والإخراج. وهذا الموضوع من الأشياء اللافتة في السينما الأردنية أن المخرج يتولى مهمة كتابة النص السينمائي مما يوحي أن جزءًا من أزمة السينما الأردنية هو أزمة نص ووجود كتاب سينمائيين محترفين.
يتناول فيلم “كابتن أبو رائد” قصة عامل نظافة في المطار تربطه علاقة “أبوية” مع أطفال الحي، فيقوم بسرد مغامراته “المختلقة” كطيار سابق عليهم، يمثل أبو رائد صورة الحكواتي المشهورة في المدن العربية، خصوصًا في بلاد الشام، ومن خلال علاقة “أبو رائد” بالأطفال نكتشف مدينة عمّان وأحلام أطفالها وقضايا النساء من عنف زوجي أو ضغوط اجتماعية بسبب تأخر زواجها.
يقدم مطالقة صورة حميمية عن مدينة عمان، تبدو البيوت الراقدة فوق الجبال ساحرة لدرجة أنها أثارت بداخلي الحنين لعمان التي عرفتها وأحببتها في التسعينيات، وحينما تنظر إلى الطرقات أسفل الجبال تنجح عدسة مطالقة في إبراز التباين بين عمان الشرقية والغربية.
النص السردي للفيلم مكتوب بشكل جميل جدًا، ويمهّد للقصة وللشخصيات ولدوافع هذه العلاقة بين “أبو رائد” والأطفال بشكل منطقي ومفهوم. ولسبب غريب ذكرتني شخصية “أبو رائد” بشخصية عمو ودود، التي أداها دريد لحام في فيلم “كفرون” وشاركته البطولة مادلين طبر وسامية الجزائري. لم يكن التقارب بسبب الأداء التمثيلي، ولكن خطوط القصة الرئيسية متشابهة، فكلتا الشخصيتين الرجالية في الفيلمين تعمل بمهن بسيطة؛ فودود كان حارس مدرسة، وأبو رائد عامل نظافة، والشخصية الأنثوية المقابلة هي شخصية متعلمة ومن مستوى اجتماعي أعلى. فمثلاً: نورا “مادلين طبر” كانت معلمة قادمة من المدينة، وأيضًا نور “رنا سلطان” كابتن طيار في الخطوط الملكية الأردنية ومن عائلة أرستقراطية، وتتقاطع هذه الشخصيات وترتبط بعلاقة صداقة قادرة تمنح النساء فيها مساحة أوسع للتعبير عن ذواتهن والتغيير، وفي محيط هذه العلاقة كان هناك الكثير من الأطفال، رمزية البراءة والطهارة والمستقبل.
سنجد أيضًا أن ودودًا شخص محب للفن ويجيد العزف على البزق، وأبا رائد عاشق للأدب يقرأ لأنطون تشيخوف ويملك مكتبة تحتوي على 2000 كتاب، ويتحدث الفرنسية بطلاقة ويحب باريس إرنست هيمنجواي وسارتر.
حصد الفيلم العديد من الجوائز، مثل: أفضل إخراج في مهرجان سياتيل السينمائي، وأفضل فيلم تسجيلي في مهرجان دوربان السينمائي الدولي في جنوب إفريقيا.
الإنتاج الروائي والأدبي في الأردن مميز، ويملك الكثير من الحكايات الجديرة بأن تُروى. فأعمال غالب هلسا، التي كانت شخصياتها متنوعة وغير مكررة وتملك عمقًا في تكوينها النفسي، بالإضافة إلى تيسير السبول ومؤنس الرزاز وليلى الأطرش مثلاً؛ جديرة بأن يتم تجسيدها والمساهمة في تعريف العالم عن الأردن وثرائه الثقافي الذي يتم اختزاله سينمائيًا في وادي رم.