كُتاب الترند العربي

المرونة الذهنية.. لبناء الوعي وتصحيح المفاهيم

مها عبدالقادر

تواجه المجتمعات طوفانًا من التغيرات السريعة في أنماط التفكير، والقيم، والسلوك، والمعرفة، بفعل الثورة الرقمية والانفتاح الإعلامي، وفي خضم هذا الزخم المعلوماتي المتدفق الذي يتجاوز قدرة الفرد على الفهم والتمحيص، تتعرض منظومات الوعي الجمعي لقدرٍ من التشويه والالتباس أو انحراف في المفاهيم والقناعات، وضعف المرجعيات الراسخة التي تحفظ تماسك المجتمع وهويته، وهنا تضح أهمية المرونة الذهنية كقدرة عقلية وإنسانية راقية تمكن الفرد من التكيف الواعي مع المتغيرات، ومراجعة الأفكار والمعتقدات، وتصحيح المفاهيم.

وجاءت مبادرة صحح مفاهيمك، للقيام بدورًا محوريًا في مواجهة التشويه الفكري والمفاهيمي الذي أصاب الخطاب الديني والاجتماعي والسلوكي، فتسعي المبادرة إلى تنقية الوعي العام من المفاهيم المغلوطة، وإعادة بناء التفكير على أسس من الفهم السليم، والوسطية الفكرية، والعقلانية المنضبطة بالقيم، وهي بذلك تتقاطع جوهريًا مع مفهوم المرونة الذهنية؛ فكلاهما يعمل على تحرير الفكر من التصلب والتبعية، وتأسيس ثقافة الوعي النقدي.

وتتجلى ماهية المرونة الذهنية في قدرة الإنسان على التكيف المعرفي والانفعالي والسلوكي مع المواقف الجديدة أو المتغيرة، دون أن يفقد اتزانه الداخلي أو بوصلته القيمية، فهي تلك الطاقة العقلية الهادئة التي تمكنه من استيعاب التحولات بوعي، والانفتاح على الأفكار المختلفة بروح ناقدة ومتزنة، بحيث يظل محافظًا على هويته الثقافية، ومعاييره الأخلاقية، ومن ثم فالمرونة الذهنية منظومة متكاملة من القيم والاتجاهات والقدرات التي تمنح الفرد استعدادًا دائمًا للتعلم، وتقبلًا للاختلاف، وقدرة على التمييز بين الغث والثمين، فتعيد للإنسان دوره الفاعل في التفكير، والفهم، واتخاذ المواقف بوعيٍ ومسؤولية.

وتعد المرونة الذهنية ركيزة أساسية من ركائز التربية الحديثة التي تسعى إلى بناء الإنسان المفكّر، والمبدع، فالتربية القائمة على هذا المفهوم تنقل المتعلم من فضاء التلقين وأسر التبعية الفكرية والانغلاق على الذات إلى أفق المشاركة، ورحابة الوعي الذاتي والحوار البناء، وتفتح العقول على التساؤل، وتشجع على إعادة النظر والموازنة بين الآراء، ومن خلال هذا النهج، تسهم المرونة الذهنية في تشكيل شخصية إنسانية سوية، متصالحة مع ذاتها ومجتمعها، وممارسة الحرية الفكرية بوعي راسخ ونظر بصير.

وتمثل المرونة الذهنية المدخل الفكري الأكثر استدامة في مسيرة تصحيح المفاهيم المغلوطة، فإصلاح الخطأ يتحقق عبر إعادة بناء أنماط التفكير ذاتها، وتحرير العقل من الجمود والتعميم والتحيز والانغلاق والتعصب، فالعقل الذي يتحلى بالمرونة يرى في المراجعة والاختلاف فرصةً للنمو المعرفي والتطور الإنساني، وحين يمتلك الفرد مرونة ذهنية حقيقية، يصبح قادرًا على مراجعة معتقداته دون خوف أو دفاعية، وتمييز الخطأ في ضوء المنطق والعلم والواقع، وهذا بالضبط ما تحتاجه المجتمعات الساعية إلى تجديد خطابها الديني والفكري؛ فالمتطرف والمتعصب كلاهما يفتقد هذه المرونة، لأنه أسير فكرة واحدة يرفض مساءلتها، ويعجز عن رؤية الحقيقة من زوايا متعددة.

ويمثل تعزيز المرونة الذهنية خاصة لدى الشباب ركيزة رئيسة لتحصينهم من الانجراف نحو الفكر المتشدد أو الإلحادي، فكلا النقيضين يصدر عن عقل جامد أحادي النظرة، أما العقل المرن، فيجمع بين الإيمان الواعي والثبات على الأصول، والتفاعل مع المتغيرات، والانفتاح المعرفي، فهو يحسن فهم الثوابت في ضوء مقاصدها، ويعيد توظيفها في سياق العصر دون إخلال بجوهرها، بعقل مؤمن ومتفتح يعيد للمعرفة قيمتها، وللإيمان رسوخه وللإنسان دوره في إعمار الأرض بفكر ناضج وضمير يقظ.

وتعد المرونة الذهنية شرطًا لترسيخ منظومة القيم الأخلاقية والوطنية؛ فالفكر المتصلب لا يمكن أن ينتج سلوكًا قيميًا راشدًا، لأن الجمود العقلي يقود بالضرورة إلى أحد ثلاثة مسالك خطرة تدور حول التطرف في الحكم، والازدواجية في السلوك، والانسحاب من المسؤولية، بينما يمنح العقل المرن صاحبه القدرة على الفهم السياقي للأخلاق، والموازنة بين المبدأ والممارسة، كما يعي أن الالتزام بالقانون والنظام العام ضمانةٌ لحماية الحقوق، وأن الانضباط والحرية وجهان لمعنى واحد هو المسؤولية.

وتتقاطع المرونة الذهنية مع أهداف مبادرة صحح مفاهيمك في تعزيز ثقافة الانتماء وترسيخ الوعي الوطني؛ فالعقل المرن يرفض الانسياق وراء الشائعات والأفكار الهدامة، ويمتلك من الوعي ما يمكنه من تمييز الحقيقة من التضليل، ومن تقدير جهود الدولة في تحقيق الاستقرار والتنمية ضمن رؤية واقعية متوازنة، فحين يتعلم الإنسان أن يرى في اختلاف الرأي ثراءً للفكر، وأن يفهم المواطنة بوصفها مشاركةً في البناء، يصبح أكثر وعيًا بمسؤوليته تجاه وطنه ومجتمعه.

ونخلص أن الشخص المرن فكريًا يمتلك حسًا بالمسؤولية الاجتماعية يجعله يتأمل أثر أفعاله على الآخرين، ويتجنب السلوك الضار لأنه يعي نتائجه، وهكذا يصبح تصحيح المفاهيم السلوكية مرتبطًا بتعزيز التفكير المرن القائم على التعاطف، والتفكير الأخلاقي، والتقدير الواقعي للمواقف؛ فحين يصفو الوعي ويتحرر العقل من الجمود، ويهذب السلوك وتنمو في الإنسان قيم الخير والانتماء والبناء.

ويعد غرس المرونة الذهنية في المؤسسات التعليمية والإعلامية والثقافية شرطًا أساسيًا لبناء سلم اجتماعي حقيقي يقوم على احترام التنوع وقبول الاختلاف، ويستند إلى وعي قادر على الفهم والحوار، وهذا ما تسعى إليه مبادرة صحح مفاهيمك، حين تدعو إلى نشر ثقافة التسامح والتعايش بين فئات المجتمع، فالتسامح يبنى بعقل منفتح قادر على التقدير والتفكير النقدي، وعلى استيعاب الآخر، زمن ثم تصبح المرونة الذهنية أداة تربوية فعالة لمواجهة خطابات الكراهية والانقسام، حيث تعمل على إعادة تشكيل الإدراك الاجتماعي على أسسٍ من العدالة والتفاهم والاحترام المتبادل، وتربط بين العقل والضمير في بناء المواقف وتقدير الأحداث.

وتمثل المرونة الذهنية أحد المفاتيح المحورية لتحقيق رؤية مصر 2030، التي تجعل بناء الإنسان محورًا للتنمية الشاملة، فالتنمية الحقيقية تقوم على البنية التحتية تحتاج إلى بنية فكرية مرنة قادرة على التكيف مع التحول الرقمي، ومواكبة الاقتصاد المعرفي، والمشاركة في العمل الجماعي المبدع، وفي هذا الصدد، تسهم المرونة الذهنية في بناء كفاءات بشرية واعية ومبدعة تمتلك عقلًا متجددًا قادرًا على التعلم المستمر، والابتكار، وتقبّل النقد، وإعادة توجيه الجهد نحو أهداف جديدة كلما تغيرت الظروف، وهي بذلك تلتقي مع أهداف مبادرة صحح مفاهيمك في بناء الإنسان المصري متجدد الفكر، ومتسامح الوجدان، ومشارك بوعي وإيجابية في نهضة وطنه، ومؤمن بأن الإصلاح الحقيقي يبدأ من إصلاح الفكر وتنمية الوعي.

ونؤكد في الختام أن المرونة الذهنية بوابة الوعي الإيجابي، ومفتاح الفكر النقدي، وأساس السلوك القيمي الرشيد، حيث تمنح الإنسان القدرة على أن يفكر بعقله، وأن يزن الأمور بميزان العلم والضمير، وتأتي مبادرة صحح مفاهيمك ترجمة عملية لهذا المفهوم التربوي الراقي، وحين تصبح المرونة الذهنية ثقافةً مجتمعية ومنهجًا في التعليم والإعلام والتنشئة، نكون قد وضعنا الأساس لبناء إنسان متصالح مع ذاته، منفتح على غيره، ملتزمٍ بقيمه، ومشارك في نهضة وطنه، فتصحيح المفاهيم يبدأ من تحرير العقول، وبناء وعي مرن قادر على التفكير والتأمل والمراجعة والإبداع، تلك اللبنات الأولى في نهضة أي أمة تؤمن أن بناء الإنسان هو الطريق القويم لبناء الحضارة.

المصدر: اليوم السابع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى