عمر غازيكُتاب الترند العربي

الضجيج الفارغ

عمر غازي

في أحد مقاطع الفيديو التي تصدرت “التريند”، يظهر شاب يضحك بطريقة مبالغ فيها على مشهد قديم من برنامج تلفزيوني، لا محتوى جديد، لا فكرة مبتكرة، فقط إعادة تدوير لما صنعه الآخرون مع تعليق ساخر، ثم تتوالى المشاهدات والتفاعلات، ويتحول إلى نجم رقمي، بينما صاحب المحتوى الأصلي يبقى في الظل، يعمل، يبدع، ولا يجد نصف هذا الاهتمام، هذه ليست مجرد لقطة عابرة، بل نموذج لظاهرة تتكرر يوميًا على منصات التواصل الاجتماعي، حيث أصبح التفاعل مع المحتوى أكثر أهمية من إنتاجه، وبرزت شخصيات مثل إسلام فوزي وأمثاله كرموز لاقتصاد قائم على استغلال جهود الآخرين.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2022، فإن 65% من المحتوى الأكثر انتشارًا على المنصات الرقمية لا يعود لصانعيه الأصليين، بل لأشخاص يعيدون تقديمه بتعديلات طفيفة أو تعليقات ساخرة، هذه الظاهرة ليست جديدة، لكنها تفاقمت مع خوارزميات المنصات التي تكافئ التفاعل على حساب الجودة، حيث كشفت دراسة أجرتها MIT Media Lab أن المحتوى المعاد تدويره يحظى بفرصة انتشار أكبر بنسبة 70% مقارنة بالمحتوى الأصلي، ما يعني أن الإبداع أصبح عبئًا على صاحبه، بينما السخرية منه تذكرة مجانية للانتشار السريع.

لكن لماذا ينجذب الجمهور إلى هذا النوع من المحتوى؟ التفسير النفسي يشير إلى أن الدماغ البشري ينجذب إلى التحفيز الفوري، وفقًا لدراسة من جامعة هارفارد عام 2021، فإن المحتوى الساخر والمقتبس يثير تفاعلًا عاطفيًا سريعًا أكثر من المحتوى الأصلي، لأن المستهلك لا يحتاج إلى مجهود فكري لاستيعابه، مجرد تعليق ساخر أو مشهد معاد تحريره يكفي لإثارة الضحك أو الاستفزاز، وهذا يفسر لماذا يجذب أشخاص مثل إسلام فوزي ملايين المشاهدات دون تقديم قيمة حقيقية.

من الناحية الاجتماعية، هذه الظاهرة تعكس أزمة في ثقافة الاستهلاك الرقمي، حيث لم يعد الهدف هو البحث عن المعرفة أو التفاعل مع الأفكار الجديدة، بل الاستمتاع بالضحك السريع والمحتوى السهل، حتى لو كان ذلك على حساب المبدعين الحقيقيين، تقرير صادر عن مؤسسة Pew Research عام 2023 أظهر أن 58% من الشباب يفضلون المحتوى التفاعلي (الميمز، التعليقات الساخرة، والفيديوهات المقتطعة) على المحتوى الأصلي، مما يعني أن صناعة المحتوى لم تعد تدور حول الأفكار، بل حول إعادة تدوير المشاهد واللقطات القديمة بطرق تضمن أكبر قدر من التفاعل السريع.

لكن هل هذه الظاهرة مستدامة؟ الواقع يقول إن المنصات الرقمية تتغير باستمرار، ومع كل موجة جديدة، تظهر فئة وتختفي أخرى، ما يثير التساؤل: هل سيظل هذا النوع من “صناعة الضجيج” قادرًا على الاستمرار؟ أم أن الجمهور، في لحظة ما، سيبدأ في البحث عن محتوى أكثر عمقًا؟ الإجابة غير واضحة، لكن التاريخ أثبت أن كل موجة من المحتوى السطحي، مهما بلغت شعبيتها، تجد نفسها في النهاية أمام جمهور بدأ يبحث عن شيء مختلف.

المشكلة ليست في إسلام فوزي وأمثاله، بل في الجمهور الذي يمنحهم الشرعية، فطالما أن الاستهلاك قائم على التفاعل العاطفي لا على القيمة، سيبقى الضجيج الفارغ متصدرًا، والسؤال الذي يجب أن يُطرح ليس لماذا ينجح هؤلاء، بل لماذا نمنحهم النجاح؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى