
كاريزما الإشاعة
عبداللطيف عبدالله آل الشيخ
ليست الإشاعةُ مجردَ كلمةٍ عابرةٍ تُهمسُ في الأذن، أو شرارةٍ تندلقُ من أفواهٍ مُتعجلةٍ، بل هي مسرحيةٌ وجوديةٌ تُقامُ على مسرحِ الفراغِ، تلبسُ أثوابَ الحقيقةِ ببراعةِ ساحرٍ، وتُطلُّ على العالمِ من شرفةِ الخيالِ كضيفٍ ثقيلِ الظلِّ يطرقُ البابَ بلا استئذانٍ، ويجلسُ في صدر المجلس بلا استئذان.
إنها الابنةُ غيرُ الشرعيةِ للوهمِ، تُزيّنُ وجهها بأقنعةِ المبالغةِ، و تُحرِّكُ خيوطَها بأصابعِ الفضولِ، لتغدوَ فجأةً – وبلا سابقِ إنذارٍ – نجمةَ الساعةِ في مجالس النفوسِ القابعةِ في روتين ( سمعتوا عن ).
تبدأُ الإشاعةُ كفكرةٍ هاربةٍ من سجنِ الصمتِ، تَهمسُ بها الأقدارُ في أذنِ إنسانٍ مُهمَلٍ في زاويةٍ مظلمةٍ من عالمِ اللامبالاةِ ، لا تحتاجُ إلى دليلٍ، بل إلى شهودِ عيانٍ و لا يُشترط أن يكونوا عدول ، وإلى قلوبٍ جائعةٍ لالتهامِ التفاصيلِ كالذئابِ.
تنتقلُ بخفةِ ريشةٍ تُلاعبُها رياحُ الفضول، تارةً تُضافُ إليها لمسةٌ دراميةٌ، و تارةً تُختصرُ كي تتسعَ لمساحةِ الهواتفِ الذكيةِ التي حولتنا لأغبياءَ! ، تَنسجُ من لا شيءٍ قصةً تتسابق بها الألسنُ قبل العقول، و كأنما البشرُ، في أعماقهم، لم يبرحوا ذلك الطفلَ الذي يُغمضُ عينيه ويُصغي بلهفةٍ إلى أحجيات جدته !
يا لها من سيركٍ بشريٍّ مُبهرٍ! ،الإشاعةُ تُشبهُ تلك الفنانةَ التي لا تحتاجُ إلى مسرحٍ أو جمهورٍ، بل تكتفي بشغف السامعِ لترقصَ على أوتارِ فضولهِ.
تلمعُ في عتمةِ الغيابِ كعيون القط في شارعٍ مظلم، يلهثُ وراءها الجُهلاءُ و العباقرةُ على حدٍّ سواءٍ، و كأنما في صيدِها متعةُ اكتشافِ سرٍّ مزيَّفٍ.
الإشاعة تُغرِّدُ خارجَ سربِ المنطقِ، فتُحوِّلُ الخرافةَ إلى نبأٍ ، والكَذبةَ إلى نبوءةٍ، و الهباءَ إلى إعصارٍ.
إنها “الكاريزما” التي لا تحتاجُ إلى وجهٍ، بل إلى أصداءٍ تترددُ في كواليس اللاوعي الجمعيِّ ،نُصدِّقُها لا لذاتها بل لأننا نُريدُها أن تكونَ جزءًا من مسرحيتنا الخاصةِ.
لكنْ، احذرْ أن تُقلِّلَ من شأنِها! فالإشاعةُ التي تبدأُ كنملةٍ صغيرةٍ قد تتحولُ إلى فيلٍ ضخمٍ يرقصُ على أنقاضِ السمعةِ. إنها تُذكِّرنا بأننا، رغم كلِّ ادعاءاتِ التحضرِ، مازلنا نعيشُ في كهفِ الغِيبةِ، نلعبُ لعبة خيال الظل على الجدران، و نُصفقُ للوهمِ كلما أجادَ تقمصَ دورِ الواقع.
سيداتي .. آنساتي .. سادتي، لنتعلمْ من كاريزما الإشاعةِ! لنُتقنَ فنَّ الانتشاءِ بالزيفِ، ولنرفعَ أقداحنا لصحةِ الأكاذيبِ التي تصنعُ منَّا أبطالاً في دراما لا نعرفُ لها كاتباً و لا نهاية.
و في النهايةِ .. ماذا تبقى من العالمِ إلا حكاياتٌ نرويها لأنفسنا كي نتحملَ ثقلَ الفراغ ؟!
ربما كانت الإشاعةُ، برغم كلِّ شراستها، هي البطلةَ التراجيديةَ التي نمنحها حياتنا كي لا نموتَ من فرطِ المللِ!
لكنْ… مهلًا! أتسمعونَ ذلك الهمسَ الخافتَ؟!
إنها الإشاعةُ نفسُها تُخبرني أن أكفَّ عن الكتابةِ، قبل أن أتحولَ إلى وقودِ عاصفتها التاليةِ !!
سأطوي الصحيفةَ إذنْ، و أتركُ للقارئِ فُسحةَ التساؤلِ: أيُعقلُ أن تكونَ الكاريزما الأكثرُ سحراً هي تلك التي لا يمتلكها أحدٌ، بل تمتلكنا جميعاً ؟!
المصدر: العربية