الفصل 19
ترجمة: سومر جباوي
الأسلوب هو النوع “الشياطين Les Diaboliques”
ربما يصنف فيلم “الشياطين Les Diaboliques” من ضمن الإبداعات الثانوية للمخرج “هنري جورج كلوزو Henri Georges Clouzot” على أنه فيلم ترفيه فقط. ولكن في الوقت نفسه، فهو، دون شك، أفضل أفلامه. أن تأتي هذه الكمالية على حساب موضوع طموح ليس بالضرورة نقيصة، إذا كان صحيحًا أن المتعة الجمالية تنبع من الملاءمة الدقيقة بين الوسائل والنهايات.
بالمقارنة مع فيلم “الشياطين” فإن فيلم “أجور الخوف The wages of fear” من إنتاج عام 1953، الذي كان عملًا ضخمًا، إلا أنه يمكن انتقاد “كلوزو” فيه لعدم تحقيقه البعد الملحمي الملحوظ في القصة من البداية. إن الغياب المزعج للضرورة الدرامية تصدر قائمة الانتقادات، إن لم يكن على حساب اختيار الحلقات، فعلى الأقل على حساب طولها، ونهايتها التي كان من المفترض أن تكون مأساوية خاضعةً لمتطلبات السرد التقليدي. ومع فيلم “الشياطين”، يبدو أن كلوزو يرغب في إثبات أنه يمكنه بناء سرد قوي إذا أراد ذلك.
أنت تعلم مسبقًا أن هذه قصة جريمة كلاسيكية، أعني، قصة ينصب الاهتمام الأساسي فيها على تحقيقات الشرطة: حيث أن وصف الشخصية والمحيط خاضع لعمل الحبكة. لذا فإن فيلم «الشياطين» لا يشبه فيلم المخرج «كلوزو» «الغراب The Raven» من إنتاج 1943 أو فيلمه «ميناء الذهب Quai des Orfivres» يعرف الفيلم باسم «جيني لامور» أيضًا، من إنتاج 1947، على الرغم من أن مسرح الأحداث هو مدرسة خاصة ليست بعيدة عن باريس. فإن لدى «كلوزو» ضعف تجاه هذه البيئات المنعزلة، ولكن في هذه البيئات تبدو العناصر الواقعية سطحية.
إن التفاصيل الموجودة هناك هي لخداع المشاهد، هي الطُعم الذي يغريه للانخراط في مسار التحقيق. سيشكرني المشاهد المحتمل في النهاية لأنني لم أكشف عن أي شيء قد يساعده في حل اللغز. من جهتي، فقد بدأت بحل اللغز قبل ثلاثين ثانية فقط من نهاية الفيلم. إن الغموض هو أمر أساسي هنا. دعوني مع ذلك أقدم لكم على الأقل النقاط الأساسية في هذا الفيلم. يقوم مدير مدرسة خاصة وفقيرة، في نفس الوقت، بتعنيف زوجته وعشيقته. تصبح هاتان الاثنتان مشاركتين في مؤامرة. العشيقة «الأكثر عدوانية» تقنع الزوجة بقتل معذبهما ليحصلا على حريتهما. سيتم تمويه الجريمة لتبدو كحادث طبيعي. يبدو أن كل شيء يحدث وفقًا للخطة.. ولكنني أدرك أنه بالمضي قدمًا في قص الحكاية، فإنني بالفعل سأحرمك من عدة مفاجآت جميلة، لذلك فلنتوقف هنا.
ما هو مؤكد هو أن «كلوزو» قد حقق 100 في المائة من هدفه وأن المشاهد لا يمكنه سوى أن يعيش جميع العواطف التي أعدها المخرج له، كما لو كان المشاهد يسير في طريق سريعة على جانبيها مناظر طبيعية. بالطبع، نعلم جميعًا أن «كلوزو» ماهر في اللعب بأعصابنا. ستخرج من دار العرض السينمائي مكسورًا وممزقًا ومتضررًا، ولكن أيضًا مرتاحًا وسعيدًا، وهذا دليل على نجاح الفيلم. إن «التنفيس» الذي يقوم به الفيلم يحدث بشكل كامل، لأن شكل الفن الذي يستثمر فيه الفيلم لا يتجاوز موضوعه ولا يقصُر دونه. يتحقق النوع بشكل كامل، وهو هذا الكمال، الغياب الكامل لأي بقايا درامية يمكنها أن تهدئ النفس بعد أن هزتها بعنف.
بعد وقت قصير من مشاهدة فيلم «الشياطين»، شاهدت فيلم «كيف تتخلص من عشيقتك» للمخرج «غي ليفانك Guy Lefranc»، من إنتاج عام 1955 والمبني على مسرحية للكاتب «فيداو»، مع الممثل «نويل نويل Noel Noel»، وهذين الفيلمين المختلفين كثيرًا تركوني في الواقع في نفس الحالة من الفرح الداخلي، لأن كلاهما يقوم بالتفكيك الدقيق لآلية درامية بشكل لا تشوبه شائبة. قد يقول البعض أن فيلم «فيدو» غير أخلاقي، ولكن هذا سيكون أحمقًا مثل القول أن فيلم «كلوزو» مؤذ: محتوى هذه الأعمال يتحول تمامًا من خلال شكلها. إن الفهم «الأرسطوي» الشهير ليس صحيحًا فقط مع التراجيديا «المأساة». ولكنه صحيح مع كل نوع درامي، حتى الأجناس الأقل قيمة، مثل أفلام الجريمة أو التهريج، لها خصائصها النبيلة وتقوم بـ«التنفيس» طالما أنه نوع حقيقي، أي طالما لديها أسلوبها الخاص وطالما تم تحقيق هذا الأسلوب بشكل مناسب.
من كل ما يمكن الاعجاب به في فيلم «الشياطين»، سآخذ مثالين فقط. الأول يتعلق ببنية الفيلم الدرامية. إن الحل الذي يُعطى لنا في اللحظات الأخيرة من الفيلم كان من الممكن أن يكون «الانعطافة» البسيطة التي سيتم تغطية المنطق الخاطئ من خلالها، أو إخفاء «سايكولوجيتها» الضعيفة بسرعة من خلال حوار المحقق وكلمة «النهاية». هذا يحدث غالبًا في أفلام الجريمة، عندما يحاول المخرج خداع المشاهد وحتى اللحظة الأخيرة قبل أن يربط الأحداث بسرعة. في هذا الحالة، فإن المشاهد لا يصبح متطلبًا أبدًا. في فيلم «كلوزو»، يحدث النقيض من ذلك تمامًا، يمكن أن يستغرب المشاهد من بساطة الحل وصوابيته، وبأثر رجعي مع تقدم كشف اللغز الجنائي. أعني أن «كلوزو» لا يضع نهاية لما يقوم به بمجرد حل اللغز، بل يعطيه معنى جديدًا إضافيًا؛ فكأنما هناك فيلمًا آخرًا ينمو من خلال هذا الحل.
لقد أشرت أنه من العبث البحث عن دراما نفسية أو صورة اجتماعية في فيلم «الشياطين». الشخصيات فيه قد تم تنميطها عن قصد، تمامًا كما لو كانت أحجارًا على لوحة الشطرنج. ولكن بطبيعة الحال، لم يحرم «كلوزو» نفسه من كل الدعم الواقعي، فإن وصفت شخصياته بأنها تقليدية، فإنها كذلك ضمن تقاليد عالم هذا المخرج بشكل خاص. ومع ذلك، هناك في الفيلم شخصية واحدة ملحوظة تبدو لي جديرة بالثناء: شخصية مفتش الشرطة، التي أداها «شارلز فانيل Charles Vanel». لم يكن من السهل أبدًا تجسيد هذا الدور. ونظرًا لأنني لن أكشف عن خاتمة فيلم «الشياطين»، سيتعين على المشاهد أن يرى بنفسه كيف استطاع «كلوزو» نقل الدور التقليدي للمفتش بجدارة، ودوره الدرامي أيضًا، أو ربما بتعبير أدق، وفقًا للاستعارة الرياضية، كيف منح المخرج هذه الشخصية الإشارة السالبة في معادلة الشرطة: «مايغريت Maigret» مضروبًا بـ«-1» يساوي حل لغز الفيلم.
المصدر: سوليوود