آراء

المكتبة والسينما

مشاعل عبدالله

“وأنا الذي دومًا ما تخيلت الجنة على هيئة مكتبة”. هذه الرؤية الحالمة والشاعرية للمكتبات لم تقتصر على خورخي بورخيس الكاتب الأرجنتيني، لكن السينما عززت من أثر هذه الصورة في مخيلة المشاهدين من خلال حكايات كانت المكتبات أو متاجر الكتب جزءًا فعالاً في السياق الدرامي.

ربما كانت المكتبة وسيلة للبحث عن بوابة للهرب من تعاسة الفرد في حياته مثل ما حدث مع جوليا روبرتس «ليز» في فيلم «طعام، صلاة، حب» من إخراج رايان مورفي، فنحن في هذا الفيلم نرى المكتبة في مشهد نهاري ينهي مأساة الليلة السابقة التي كانت مليئة بالدموع والصلوات! تبدو بائعة الكتب في ذلك المشهد كمختص قادر على تشخيص وجع الفرد من خلال العناوين التي اقتنتها «ليز» السيدة التي تكتشف أنها تعيش علاقة بدأت تثقل عليها، وحياة لا تشبهها وتتوق إلى تجربة مختلفة. أما قاموس اللغة الإيطالية، فهو مثل بوصلة رحلتها التي كانت تبدو وجهتها مبهمة وضبابية.

علاقة جوليا وأثر المكتبة في السينما أقدم من فيلم “طعام، حب، صلاة”. ففي عام 1999، قدمت جوليا وهيوجرانت الفيلم الرومانسي “نوتينج هيل” من إخراج روجر ميشيل، والتي كانت المكتبة بمنزلة فردوس الحب بين الممثلة المشهورة وبائع الكتب المغمور الذي يعيش حياة رتيبة. من تلك المكتبة نكتشف الحب والاختلافات ومفاهيم متعددة بطريقة بسيطة.

هذا الفيلم ينطبق عليه مقولة غسان كنفاني الشهيرة «ليس بالضرورة أن تكون الأشياء العميقة معقدة، وليس بالضرورة أن تكون الأشياء البسيطة ساذجة: إن الانحياز الفني الحقيقي هو كيف يستطيع الإنسان أن يقول الشيء العميق ببساطة».

هذا الانحياز الفني خلق أثرًا في ذاكرة محبي الفيلم، وأصبحت زيارة هذه المنطقة وأماكن تصوير الفيلم في جولة سياحية لمدة ساعتين تقريبًا وبتكلفة تقارب 20 جنيهًا إسترلينيًا، من ضمن النشاطات الموصى بها في عاصمة الضباب.

في عام 1989 كتبت الكاتبة والمخرجة نورا إيفرون سيناريو فيلم «عندما التقى هاري بسالي» When Harry Met Sally، وأخرجه روب رينر، وقدمت فيه ميغ ريان دور «سالي» وهو من أجمل أدوارها، مع بيلي كريستال بدور «هاري». يحتل الفيلم الذي يتناول فكرة هل توجد علاقة صداقة حقيقة بين الرجل والمرأة المرتبة السادسة في قائمة أفضل عشرة أفلام كوميديا رومانسية. وتبدو المكتبة في المشهد الشهير حينما نرى هاري يسترق النظر لسالي بجانب كتب تطوير الذات، وهذا انعكاس لمرحلة عمرية في رحلتنا للتعرف على بطلي الفيلم.

كتبت نورا الفيلم بإلهام من تجربة المخرج راينر بعد الانفصال.. هاري هي شخصية خلقتها نظرة راينر تجاه الحياة والنساء والحب، وسالي هي حكايات نورا مع صديقاتها عن الحب والرجال والأحلام والمخاوف. لا يبدو الفيلم ينتمي للمدرسة النمطية التي تعتمد على الحبكة الدرامية بقدر ما هو انعكاس لما تسميه الكاتبة نورا المذهب أو الاتجاه اليهودي في الأفلام الرومانسية الكوميدية. تعتقد نورا أن الأفلام الرومانسية الكوميدية مذهبان: النوع المسيحي، وهذا النوع من الدراما يعتمد على وجود عقبة حقيقة في السرد الدرامي تمنع لم شمل الحبيبين؛ والنوع اليهودي الذي تكون العقبة فيه شخصية البطل، تحديدًا الرجل ومشاكله النفسية، وتبدو أفلام وودي آلن النموذج المثالي للمذهب اليهودي.

يروقني تصنيف نورا ولا أعلم إذا كان لفرويد الأب الروحي للتحليل النفسي تأثير ما على هذه التسمية! بعد تسع سنوات قدمت نورا فيلم «لديك بريد» you’ve Got Mail الذي قامت بكتابته وإخراجه وأسندت البطولة لميغ رايان وتوم هانكس. في هذا الفيلم كانت المكتبة انعكاسًا لمفاهيم الرأسمالية والقيم وتأثير الإنترنت. وتنوعت الأفلام التي قدمتها نورا إيفرون للسينما، ودومًا ما كانت المكتبة مسرحًا لحدث يبقى عالقًا في الذاكرة. في عام 2009 كتبت وأخرجت نورا فيلم «جولي وجوليا» Julie & Julia، الذي قامت بدور البطولة فيه ميريل ستريب وإيمي أدامز. ويتناول الفيلم قصة الطباخة الأميركية جوليا شايلد، التي لا تزال تلهم الكثير من الأميركيين من خلال تجربتها في تغيير مهنتها وعلاقتها العاطفية مع زوجها بول، ورحلتها لتعلم الطهي الفرنسي، وتقديم الوصفات الفاخرة لربات البيوت الأميركيات. في فيلم نورا تلهم جوليا الشابة جولي التي تقوم بتحدي تطبيق وصفات جوليا ونشرها على مدونتها. في هذا الخط الدرامي الذي يتناول حياة جوليا شايلد في باريس، نرى ميريل ستريب تقف أمام متجر شكسبير وشركائه المشهور في باريس.

تبدو مكتبة شكسبير وشركائه ملهمة لصناع السينما الأميركية، وربما حضورها في مشاهد سينمائية هو تكريم للسيدة سيلفيا بيتش، صاحبة المكتبة التي قدمت الكثير للكتاب والمؤلفين، خصوصًا في فترة العشرينيات من القرن الماضي التي شهدت نزوح العديد من المؤلفين الأميركيين إلى باريس التي كانت معقل حراك ثقافي وفني في تلك الفترة.

كانت الفكرة الأساسية لدى سيلفيا هي إنشاء مكتبة فرنسية في نيويورك، وبسبب بعض الصعوبات المالية قررت التفكير بشكل عكسي وذلك بافتتاح مكتبة أميركية في باريس! تبدو الفكرة صادمة خصوصًا في مدينة طالما عابوا عليها تزمتها تجاه لغة الآخر، ولكن الفكرة حققت نجاحًا لم تتوقعه سيلفيا.

كتاب سيلفيا عن ذكرياتها مع المكتبة ممتع ويحتوي الكثير عن تاريخ المدينة والحرب وأسرار المؤلفين. كانت المكتبة بديلاً للدور الذي تؤديه المقاهي في المشهد الثقافي، وكانت مكان لقاء وعنوان مراسلات لأصدقائها الأميركيين في باريس حتى تدبرهم مكان إقامة دائمًا. وفرت سيلفيا المجلات الدورية والكتب باللغة الإنجليزية للمثقفين الإنجليز والأميركيين المقيمين في باريس في تلك الفترة.

فيلم «منتصف الليل في باريس» Midnight In Paris، الذي كتبه وأخرجه وودي آلن في عام 2011، يعرفنا بشكل أقرب على رواد هذه المكتبة.. أصدقاء السيدة سيلفيا مثل: زيلدا، وسكوت فيتسجيرالد صاحب رواية «غاتسبي العظيم»، وإرنست همينغواي، وجيرترود ستاين صاحبة الصالون الأدبي الذي ضم بيكاسو وعزرا باوند وهنري ماتيس. يتناول الفيلم قصة كاتب السيناريو غيل، الذي يزور باريس برفقة خطيبته وأهلها، رغبة منه بإنجاز رواية عمره. غيل في الفيلم تتملكه روح المدينة والنوستالجيا، فيجد نفسه في منتصف الليل مسافرًا عبر الزمن، للوقت الذي أحب فيه هذه المدينة.

في هذا الفيلم نفسر مع غيل لماذا نرتبط ببعض المدن دون سواها! ونكتشف أن جمالية الزمن الماضي محض أوهام، ومحاولة هروب من الحاضر. رحلة غيل اليومية في السفر عبر الزمن تضع لنا نواقص ومزايا الماضي في ذات السلة. هذه التجربة جعلت غيل يكتشف عيوب علاقته مع خطيبته. يبدو الزمن والمكان في هذا الفيلم مجهر الحياة الذي نحتاج أن نمعن النظر فيه أكثر.

لم يقدم وودي آلن سيلفيا بيتش كشخصية في الفيلم، رغم أن حضورها الثقافي في تلك الفترة لا يمكن تجاهله، ولكنه استعاض عن حضورها بمكتبتها الشهيرة شكسبير وشركائه بلونها الأخضر المميز وصورة شكسبير المعلقة، التي بحسب رواية سيلفيا في مذكراتها سرقت مرتين.

تظهر المكتبة ذاتها للمرة الثالثة في فيلم «قبل الغروب» Before Sunset، حينما يقوم جيسي بقراءة روايته في باريس في نفس المكتبة، الحوار الذي دار في المكتبة يعتبر حدثًا محوريًا في الفيلم.

هذا الحضور الطاغي للمكتبة في الدراما جعلها من ضمن المزارات الثقافية في أي برنامج سياحي إلى باريس. علمًا بأن موقعها الحالي بالقرب من «السين» وكنيسة نوتردام، ليس هو المكان الأصلي الذي كانت تملكه وتديره سيلفيا. الموقع الأصلي يقع بالقرب من مسرح أوديون العريق، ولو تسنى لك زيارته لاستطعت تمييز المحل من اللوحة المعلقة والمكتوب عليها اسم سيلفيا على محل الملابس الذي يديره رجل متقدم في السن بشوش ومضياف، ويتحدث بشغف عن دهشته ومصادفة اكتشافه أن محل والده للملابس كان مكتبة سيلفيا الشهيرة!

لا يمكننا ذكر سيلفيا بيتش دون أن ننوه أنها قدمت للعالم الأدبي والثقافي العمل الخالد لأديب أيرلندا العظيم جيمس جويس «عوليسس»، الذي عاني من رفض الكثير لروايته التي قضى أكثر من خمس سنوات في كتابتها. وحدها سيلفيا امتلكت الشجاعة للقيام بهذه المهمة كتجربة أولى لها، وحققت الرواية نجاحًا عظيمًا رغم الهجوم الذي طالها، وربما تبقى الصورة الأشهر لرواية «عوليسس» هي الصورة التي تبدو فيها مارلين مونرو منغمسة في قراءة الرواية. مارلين في هذه الصورة تعترض على الصورة النمطية لها كسيدة لا تملك إلا الجمال! من خلال هذه الصورة مرر المصور رسالته! وبقيت خالدة.

كل الأفلام التي استعرضناها هي صورة الفردوس الذي تخيله خورخي .. لكن حتمًا أن خورخي بورخيس لم يتصور رغم خياله الواسع، ما حدث في فيلم «البوابة التاسعة» من إخراج نورمان بولانسكي، وبطولة جوني ديب، أن الشيطان قد يزور المكتبة ذات يوم!

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى