“لديَّ أحلام كهربائية”.. ماذا يعني أن تكون بالغًا؟
نور هشام السيف
تقدم المخرجة الكوستاريكية “فالانتينا موريل“، زاوية مختلفة من الدراما العائلية في فيلمها الطويل الأول “لديَّ أحلام كهربائية” من إنتاج مشترك “بلجيكي – فرنسي – كوستاريكي” 2022.
تدور أحداث الفيلم في كوستاريكا، وتتناول قصة بلوغ “إيفا” سن الرشد، وتقوم بالدور “دانييلا مارين نافارو” البالغة من العمر 16 عامًا، والتي تتعامل مع أحداث عائلية مضطربة تحاول الإبحار فيها.
تعيش “إيفا” مع والدتها وأختها الصغيرة وقطتهم، في نقطة تحول من الانتقال الطفولي إلى عالم المراهقة. هناك مسافة حساسة أبرزتها المخرجة في أكثر من مشهد تصوِّر فيه الرغبة في الاكتشاف مع الشعور بعدم الراحة والتمرد.
بداية الفيلم تطرح الطلاق كحالة قاطعة مع الأحداث القادمة والحالات والمواقف المتتالية. فعلى الرغم من أن “إيفا” استقرت هي وشقيقتها الصغرى مع والدتهما في منزل في سان خوسيه، تشعر البطلة بمزيد من الانجذاب إلى شخصية الأب “مارتن”، الذي قام بأداء دوره “رينالدو أمين غوتيريز”. المشكلة هي أن هذا الرجل غير الناضج وغير المستقر والعنيف أحيانًا عندما لا يستطيع احتواء نوبات الغضب لديه، يعيش مراهقة متأخرة لا تخلو من التجاوزات، ولا يمكن أن يمنحه أحد أدنى احتواء عاطفي. وهكذا، يكاد يكون من الطبيعي أن يسيطر عليه الألم النفسي والجسدي.
وبينما تعيش “إيفا” عالمها البالغ غير المستقر في عبور كامل للتوترات الجنسية، اضطرت إلى التعامل مع أزمة منتصف العمر وعدم الاستقرار التي يعاني منها والدها، وهي مجبرة على تحمل قسوة العالم الحقيقي بالعدسة الحساسة للمراهقين.
الألم في كنف الأسرة
الفيلم يبني سردًا رائعًا حول العلاقة بين “إيفا” الابنة و”مارتن” الأب، اللذين يبدوان في خطين متوازيين، كل منهما يريد أن يجد مكانه في العالم. ولكن ماذا سيكون ذلك المكان الذي تسعى إليه بشدة بجانب والدها؟ ولماذا ترفض العيش مع والدتها التي تبحث فقط عن الهدوء والسلام، وتفتتن بوالدها وتسعى لاستكشاف الزوايا والألغاز الخاصة بشخصية أب يعيش العبثية والضياع؟!
في المشهد الافتتاحي الذي يدور داخل السيارة، لا يتفق والدا «إيفا» على الإطلاق، والأب على وجه الخصوص، يعاني من نوبات من الغضب والعنف لا يمكن السيطرة عليها، والتي عادة ما تؤدي به إلى إيذاء نفسه، مما يؤدي إلى ضرب رأسه بالحائط حرفيًا.
مع ذلك ترفض “إيفا” كل ما تنطوي عليه هذه المرحلة الجديدة، وهي مرحلة مسالمة. لكنها تتبع جموحها وتريد العيش مع والدها. يستقبلها الأب “مارتن” رغم تأثره الشديد بالانفصال في ورشاته الشعرية وإلقاء القصائد، وهواياته الفنية الأخرى.
على امتداد الفيلم، تحاول “إيفا” أن تكتشف عالم والدها وتدفعه بما تعتقد أنه الأصح نحو الاستقرار وتحديد توجهاته بعد الطلاق، كذلك تساعده في العثور على شقة أثناء إقامته في منزل أحد الأصدقاء.
ينتقل “مارتن” من مكان إلى آخر، وليس لديه الكثير من الخطط في الحياة، فهو في الأساس مترجم لكنه لا يعمل. إنه يحاول كتابة الشعر، بينما “إيفا” لم تعش في فقاعة العالم الحالم الذي يفرضه الشعر! بل يرمي الفيلم إلى هدف الفتاة التي تريد العيش مع والدها لتهرب من سيطرة والدتها، رغم أن هذه السيطرة غيابية ولا تظهر على الشاشة مطلقًا!
المنعطف
«إيفا» تنتقل من عالم الطفولة إلى المراهقة، ووالدها ينتقل من أزمة منتصف العمر إلى مراهقة متأخرة. إلى أي مدى يؤدي هذا المنعطف العكسي إلى عقبات غير محمودة؟
تتخذ الشخصيتان بالتحوُّل الرجعي خطوة في فهم أفعالهما والعواقب التي تأتي معها، بينما يشرعان في فقدان السيطرة والهجوم بعنف تراهما يعودان خطوات إلى الوراء.
وهذا العنف لا يظهر متصاعدًا بالتوالي، بل يحرّر المشاهد للحظات بالتنفس والسماح لها بالهدوء والثبات، بعد أن تم فك ضغطها وتوترها. كل هذا يشبه بناء العالم من حول هذه الشخصيات التي تحاول الهروب من ملكها؛ طبائع ومعرفة شيء خارج أنفسهما لرؤية شخص ما من خلال الأبواب المغلقة.
«لديَّ أحلام كهربائية» مليء بالمشاهد الصعبة، شدّتها كلها آسرة، لكن انعدام الأمن لكل شخصية من الشخصيات يتدفق عبر الشاشة ويضعك بجوارهم في مواقف منزلية مروعة. في الوقت نفسه يتعلق الأمر بكيفية تفاعلنا مع بعضنا البعض، وما الذي يفترض أن تعنيه تلك التفاعلات، وما إذا كان الحب يمكن أن يتجلى بأكثر من طريقة أم لا. بينما قدمت المخرجة طريقًا واحدًا لمفهوم الحب هنا، وهو بناء منزل خالٍ من العنف.
المودة القاسية
يتصاعد لدى «إيفا» الدافع الجنسي الذي يبدأ عبوره مع رجل يكبرها في السن، وتقيم معه علاقة استطاعت أن تجعلها تتنزه في حدائق الرغبة، وشعرت بامتلائها كأنثى تتعاطى الحب سريريًا، وكونها مرغوبة في عالم مهزوز. لكن الرجل الذي أغواها رأى فيما بعد أنها مجرد نزوة مع فتاة غير ناضجة، رفض بعد ذلك تكرار الأمر مما جرح أنوثتها الطرية.
من جانب آخر، يطغى السرد المرئي على الحوار في كثير من المشاهد من باب «الشح أفضل من الثرثرة»، خاصة في تلك اللقطات التي تتعامل «إيفا» مع والدها وكأنها تتعامل مع زوجها، والذي يبدو أنه يوجه من خلالها آلامه وتوتراته. لقد بدأ كل شيء في الاختلاط في حياتها. وهذا، جنبًا إلى جنب مع الطريقة العدوانية للغاية وغير المنضبطة التي يتصرف بها عندما يمر بمواقف صعبة، فإنه يضع عالم ابنته المراهقة في نقطة الانهيار.
«لديَّ أحلام كهربائية» هو قصة بلوغ متوترة تتعامل مع تناقضات شخصية، وتريد أن تعيش في عالم من البالغين، فتأتي ردود الأفعال بطريقة لا يمكن التنبؤ بها.
رغم هذا كله، هناك لمسة من التفاهم بين أب وابنته تظهر حتى في أقل اللحظات المتوقعة، حتى عندما لا يكونان في ومضات من الحنان والدفء بشكل خاص. وهذا ما يمكن تسميته شكلاً من أشكال «المودة القاسية» التي تمتلكها العديد من العائلات التي تتعرف فيها بطلة الرواية أيضًا على نفسها.
«إيفا» هي متلقية للعدوان، ولكنها عندما تملك الاستطاعة مع أختها الصغيرة أو والدتها في أن تظهر هذا العنف، سوف تفعل بلا تردد. العنف هو أيضًا جزء منها، وإن لم تمارس الإيذاء البدني لذاتها. تدرك «إيفا» أن هذه الآلية مدمجة في عائلتها، وأنه لن يكون من السهل تغييرها.
اللقطة الثابتة في جميع مراحل الفيلم تبين لنا الحقيقة الأكثر حزنًا في المشهد الأخير بعد تصادم وعراك عنيف؛ إذ تطرح الطبيعة المدمرة لشخصية الأب المنفصل السؤال: «هل تشعر بالألم؟» يعود السؤال إلى العلاقة بين “إيفا” ووالدها ويشير إلى ميولها العنيفة المماثلة. يُذكر أن هذا الفيلم حصل على ثلاثية فوز مستحقة “أفضل إخراج – أفضل ممثل – أفضل ممثلة” في مهرجان لوكارنو السينمائي، وعرض للمرة الأولى في الشرق الأوسط في مسابقة أسبوع النقاد ضمن فعاليات مهرجان القاهرة السينمائي في دورته الماضية.
المصدر: سوليوود