المغتربون.. ومغالطة “الرنجة الحمراء”
عمر غازي
عندما توجه سؤالا إلى بعض الوافدين أو العاملين المغتربين عن رأيه البلد المستقبل، وما تقييمه لوضعه كمغترب فيها أتى لتحقيق أهداف مادية بالأساس، يلجأ إلى مغالطة “الرنجة الحمراء”، وهي مغالطة منطقية تتمثل في عرض معلومات، او أسباب خارجية، لتشتيت انتباه الطرف الآخر عن الموضوع الأصلي، وهو تكتيك شائع في النقاشات التي يرغب أصحابها في اتباع أسلوب المراوغة، للوصول إلى نتيجة مزيفة في النهاية .
وانتشر هذا المصطلح على يد الصحفي والبرلماني الإنجليزي ويليام كوبيت ، الذي يحكي قصة عن استخدام رنجة (سمكة مدخنة ذات رائحة نفاذة) من أجل إبعاد كلاب الصيد عن مطاردة الأرانب البرية .
فالبعض مثلا عندما تسأله عن مدى ارتياحه واستفادته من العمل في المملكة العربية السعودية، يحدثك عن رسوم المرافقين الباهظة، أو رسوم رخصة العمل المرتفعة، وربما يكون في حقيقة الأمر ليس معه مرافقين ليدفع رسومهم، ولا يتحمل رسوم رخصة العمل ولا الإقامة حيث تدفعهما جهة العمل.
وحتى لا ندع مجالا للرنجة الحمراء في الإجابة على هذا السؤال: لماذا قد يحمل الوافد سخطًا تجاه البلد المستقبل، ولا يتذكر الجانب الإيجابي من العلاقة؟
سنحاول الإجابة عليه، بطريقة أخرى من خلال إعادة تفكيك هذا السؤال العريض إلى عدد من الأسئلة البسيطة التي تبدو بديهية، ولا تحتاج في الإجابة عليها إلى أكثر من المنطق العقلي، وبعض من الحيادية، لتساعدنا في الوصول إلى الإجابة النهائية، بتسلسل منطقي، وعقلاني، وهذه الأسئلة يمكن حصرها في الآتي:
(1) هل قدمت لك البلد المستقبل على الصعيد المادي ما هو أفضل من بلدك؟ بالتأكيد نعم وإلا لما قدمت إلى هنا.
(2) هل حققت أهدافا مالية ومهنية من عملك في البلد المستقبل ساعدتك في عيش حياة أفضل – حتى لو لم تكن الطموح النهائي لك -؟ بالطبع والدليل أنك هنا وغالبا ستبقى هنا بإرادتك.
(3) هل كنت تستطيع العيش في هذا المستوى لم لو تأتي إلى البلد المستقبل للعمل؟ لا بالطبع. وإلا لما أتيت هنا واستمريت رغم كل الصعاب واستطعت أن تجمع المال لتتزوج في عدة سنوات معدودة ربما كنت تحتاج مثلها 4 مرات لتحقق نفس الهدف في بلدك إن استطعت إلى ذلك سبيلا.
(4) هل تقبل بالحصول على نفس هذا المستوى من العيش لتعود لبلدك؟ إذا حصلت على ربعه ستكون راضياَ وسعيداَ وستعتبره إنجازاً كبيراً لحكام بلدك واقتصادها.
(5) هل يوجد مواطنون في البلد المستقبل في وضع دون وضعك؟ بالطبع نعم وهم كثير، وربما امتلكت مسكنا في بلدك نتيجة عملك هنا بينما كفيلك نفسه ما زال يسكن بالإيجار!
(6) هل أنت كفاءة استثنائية غير موجودة مثلاً في السعودية على سبيل المثال ويعجز السعوديين على أداء مهامك الوظيفية أو الحصول على ما عندك من علوم؟ بالتأكيد لست أحمد زويل زمانه، أو نجيب محفوظ عصره، والنظام التعليمي السعودي حاليا أرقى من نظام بلدك بالإضافة إلى أن مئات الآلاف من المبتعثين السعوديين عادوا لوطنهم ويبحثون عن فرصة عمل.
(7) هل أنت أولى من المواطن؟ وهل تقبل أن يفضل الوافد في بلدك عليك؟ ضع نفسك في الجهة المقابلة؟ أخي الوافد.. ربما لم يسبق لك أن سألت نفسك هذا السؤال، لكن تبادل الأدوار ضروري جدا للمساعدة في الوصول إلى الإجابة، ولعلك قرأت في الأخبار ما فعله الأتراك واللبنانيون، وغيرهم باللاجئين السوريين لمزاحمتهم في سوق العمل والتجارة في بلدانهم، ومنافستهم على الزواج من بنات بلدهم، وأثناء مراجعتي لهذا الكتاب وقفت على دراسة صادرة عن أحد الجامعات السودانية، بعنوان “العمالة الوافدة وأثرها على معدلات البطالة في السودان بالتركيز على قطاع الخدمات 2010 – 2015” ، تتناول الأثر السلبي للعمالة الوافدة إلى السودان على الرغم من قلتها، في الوقت الذي تعد السودان أحد الأسواق المصدرة للعمالة لدول الجوار، واللافت أن معظم التوصيات الواردة في الدراسة هي ذاتها الإجراءات الحالية التي تنفذها السعودية وبعض دول الخليج لإحداث التوازن لصالح مواطنيها، وتثير امتعاض البعض، ومنها: “رفع تكلفة استخدام وتشغيل الوافدين بزيادة رسوم الدخول والإقامة، وتوجيه هذه الرسوم لتدريب القوى العاملة الوطنية، وتدريب وتأهيل العمالة الوطنية والعطالة لإحلالهم مكان العمالة الأجنبية، إضافة إلى وضع ضوابط مشددة على الأموال التي يتم تحويلها إلى الخارج” أ.هـ
وفي دراسة أخرى بعنوان “ضوابط استخدام العمالة الأجنبية في السودان والسعودية: دراسة مقارنة 1997- 2007، للباحث: محمد أحمد شهاب الدين” ، وهي بحث تكميلي لنيل درجة الماجستير من معهد الإدارة العامة والحكم الاتحادي بجامعة الخرطوم عام 2008، في الوقت الذي كانت فيه السودان تشهد انتعاشا اقتصاديا بسبب الكشف عن البترول، خلصت الدراسة إلى أن العمالة الأجنبية نظراً لتدني أجورها تشكل خطراً على السودان بالرجوع للحالة السعودية كونها مصدر قلق على العمالة المحلية، وتسهم في تفشي البطالة، بالإضافة إلى توصيات أخرى مثل عدم التجنيس خوفا على الهوية السودانية، إذ يمنح النظام السوداني الحق في التجنيس لمن أقام إقامة نظامية لمدة خمس سنوات، وهو ما اعتبره الباحثان خطراً كبيراً وطالبا بضرورة انتهاج النهج السعودي في تشديد شروط التجنيس.
وهناك نقطة أخرى ركز عليها الباحث وكررها في عدة مواضع وهي أن جزء من البطالة في السعودية يعود لعدم رغبة المواطن السعودي في التعليم المهني والفني، بعكس السوداني الذي يتمنى ذلك ولا يجد الفرص الكافية للتدريب والتأهيل، وهذه المعلومة غير صحيحة أيضا في الوقت الراهن، وربما كانت ما تزال وقت إعداد الدراسة قبل اثنتي عشرة عاماً إحدى الإشكاليات، لكننا نعيش في عالم متسارع ومتغير، وسيأتي تفصيل هذه الإشكاليات في الفصول اللاحقة.
(8) وأخيرا: هل بلد مثل السعودية استقدمتك بهدف الهجرة، والاستقرار النهائي، ووعدتك بالحصول على جنسيتها؟ الجواب أنك ربما تكون ساذجًا أو حالمًا ولكن هذه ليست مشكلة السعودية ولا السعوديين.
هذه الأسئلة الثمانية هي أسئلة بديهية وإجاباتها لا تحتاج سوى إلى المنطق البسيط، بعيدا عن الدوغماؤية، وهي حالة الجمود الفكري الناتج عن الأفكار المعلبة المسبقة.
والأمر الآخر الذي يبعث على الدهشة والاستغراب هو أنك إذا سألت أصحاب النظرة السوداوية هذه الأسئلة على نحو متفرق لوجدت إجاباتهم في أغلبها متطابقة مع ما كتبت أعلاه، بينما إذا سألتهم عن النظرة الإجمالية ستجد بلا تردد النتيجة المؤسفة التي لا تتبع المنطق ومقدماته، وهذه النتيجة في حد ذاتها منقصة لصاحبها لا الدولة المستقبلة لأنها تنضوي على الكثير والكثير من عدم الإنصاف ونكران الجميل الذي تكون عواقبه وخيمة على صاحبه قبل أي أحد آخر، لأنه ينم عن شخصية غير متصالحة مع الذات، وفي صراع دائم واضطراب داخلي، لأن الإنسان السوي الواثق من نفسه لا يتردد في إظهار نعم الله عليه، وشكرها، والامتنان لأصحاب الفضل فيها، وحفظ هذا المعروف مهما بلغ حجمه، كان كبيرًا أو صغيرًا، ومهما كانت علاقاتنا مرتبطة بالعمل أو الدراسة أو المصالح ذات النفع الشخصي، فإن الجوانب الإنسانية لابد وأن يكون لها تأثير في قراراتنا وانفعالاتنا وعواطفنا فالإنسان كائن اجتماعي لا يمكن أن يعيش بمعزل عن محيطه، فهو يؤثر ويتأثر سواء كان واعيا لهذا التأثير والتأثر أو لا، والوافد أو المغترب يمضي وقت ليس بالقليل من عمره، وأغلبه في مرحلة ريعان الشباب، أو مقتبل العمر، وهذه من أهم المراحل في تشكيل عقلية ونفسية الإنسان، كما أن المفتاح لما بعدها، وقد تكون تأثيراتها ليست لحظية أو وقتية، وإنما دائمة ومستمرة، لما قد يصاحب الغربة عادة من آلام قد لا يشعر بها المجتمع المستقبل وهي آلام البعد والفقد وقد تزيد هذه الآلام إلى آلاف ضياع الهدف وعدم وضوح الرؤية وبالتالي تخبط يعود بالضرر على الوافد ووطنه والمجتمع المستقبل على حد سواء.
وحتى نكون منصفين فإن هذه المغالطة وهي “مغالطة الرنجة الحمراء” ليست حكرًا على الوافدين دون غيرهم، فيقع فيها أيضا بعض المواطنين، عندما يدور الحديث حول الأجانب الوافدين، وأهميتهم في القطاع الاقتصادي، أو غيرها من الجوانب، يكون الرد حول بالحديث حول جرائم البعض منهم، أو بعض السلبيات الأخرى، البعيدة عن صلب النقاش