فيلم “المجهول”.. من العبث إلى السيكو دراما
رامي عبدالرازق
في عام 1942 قدم كاتب نوبل ألبير كامو “1913- 1960” روايته العبثية “الغريب”، التي تحكي عن مقطع من حياة “ميرسو” منذ أن وصله نبأ وفاة أمه حتى اتهامه في جريمة قتل شخص غريب عنه فتم الحكم عليه بالإعدام، رغم أن كل ما كان يريده هو أن يمارس مزيدًا من الحب مع عشيقته ماريا.
وبينما تتدفق فصول الرواية القصيرة يتوقف بطلها عند خبر منشور بإحدى الجرائد حول شاب يعود إلى موطنه بعد سنوات طويلة، حيث تدير أمه وأخته نزلًا متواضعًا، ولكن غيابه الطويل عنهما 25 عامًا ينسيهما ملامحه، فيقرر أن يصنع لهما مفاجأة بأن يختبر مشاعرهما تجاهه، فيخبئ عنهما نبأ قدومه، ويتعامل على اعتبار أنه شخص آخر، فتقوم الأم وابنتها بقتله، لأنهما اعتادتا سمّ الزبائن وسرقة أموالهم دون أن تدْريا أنه الابن والأخ المنتظر منذ سنوات.
هذا الخبر الذي يأتي مصادفة أمام عين بطل الرواية يعود إليه كامو بعد عام واحد 1943 ليشكّله في صورة حبكة مسرحيته العبثية «سوء تفاهم»، التي منذ أن صدرت توالى تقديمها عبر مختلف الوسائط، وصولًا إلى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، حين يقرر السيناريست المصري مصطفى محرم أن يعيد تقديمها عبر معالجة سينمائية بعنوان المجهول وهو الاسم الفرنسي للنص الأصلي من إخراج وإنتاج أشرف فهمي، وبطولة نجلاء فتحي، وسناء جميل، وعزت العلايلي، وعادل أدهم.
لعبة النوع
الفرق بين الخبر المنشور في قصاصة الجريدة برواية الغريب وبين نص المسرحية هو الخوض بصورة تشريحية في الطرح الخاص بعبثية العالم ولا معقوليته من خلال ثلاث لوحات، تبدأ مع حديث الأم والابنة حول النزيل الجديد الذي يتهيأ دون أن يدري لأن يكون ضحية جديدة لهما، من أجل استكمال المبلغ المالي الذي سوف يمكنهما من الرحيل من المدينة التي لا ترى السماء ولا البحر.
وعبر الديالوجات الثنائية الطويلة نتعرف على موقف كل من الشخصيات الأربع «الأم والابنة والابن العائد وزوجته» من القضية الأساسية للنص، حيث تصوراتهم المتناقضة عن العالم، فالابن يريد أن يضمن أن أسرته التي نسيته لا تزال تحتفظ بمشاعر الحنان والود تجاهه، وليس لأنه عائد محمل بالمال، والزوجة ترى أن يُعلن من البداية عن شخصيته لأن الحب الذي يكنّه لهما كفيل بأن تعفيا عن غيابه الطويل، بينما فقدت الابنة طراوة روحها وصارت أقرب لكائن يعيش في الظلام منذ سنوات، ويتوق لأن يرى الشمس حتى لو أن عينيه لم تعدا تحتمل ضوءها، في حين أن الأم تُمثِّل الشعور القاتل بالذنب جراء إقدامها على إزهاق الأرواح من أجل المال، فينتهي بها الحال إلى أن تزهق روح ابنها نفسه الذي انتظرته طويلًا.
فماذا فعل السيناريو السينمائي إذن؟
أول ما أقدمت عليه المعالجة هو تغيير النوع، فبدلًا من الحالة الفلسفية التي تكسو النص بلونها الجدلي الجاد، انتقل السيناريو بالحكاية إلى السيكو دراما أو الإثارة النفسية القائمة على العقد المتراكمة والمشكلات المترسبة في نفوس الشخصيات، نتيجة تاريخ مشوه ربما خارج عن إرادتها، وتحديدًا فيما يخص شخصيتي الأم والابنة وكأن ثمة إحالة غير مباشرة للثنائي الإجرامي الشهير ريا وسكينة- وبدلًا من أن يكون الابن جون قد سافر منذ وقت طويل ولم يعد، أصبح ناجي هو الابن الذي حُرم من أمه بسبب شكوك أبيه في سلوكها، وتطليقها وطردها، ومن ثم اضطرارها للهجرة إلى كندا البلد البديل عن المدينة الغائمة في النص- وهناك أنجبت ابنتها/أخته وعاشتا معًا في انتظار أن تجمعا مبلغًا من المال للعودة إلى مصر من أجل البحث عن الابن/الأخ بعد أن علمتا بموت الأب الظالم.
تُعدّ الإثارة النفسية من الأنواع الجاذبة سينمائيًّا، التي تمنح الهواء الفيلمي نفسًا له رائحة غامضة تورط المتلقي في المتابعة بكامل وعيه ومشاعره. وعليه، لم يكتف السيناريو بتشكيل أزمتي الأم والابن على أساس نفسي، فهي المطرودة المحرومة المطعونة في شرفها وهو الباحث عن حضنها بعد اختفاء طويل، ولكنه مشي بفرشاة العقدة النفسية على روح الابنة، فجعلها هي الأخرى تعاني مشكلة سيكولوجية سببها تعرضها لخيانة سابقة من حبيب جعلتها تكفر بالحب وتشتهيه في علاقة جدلية مركبة كما نراها في المشهد الذي تتلصص فيه على اثنين من العشاق جاءا لممارسة الحب في النزل الصغير وبينما كانت أمنيتها في النص الأصلي أن تعيش في مدينة ترى الشمس التي تحرق كل الأسئلة على حد تعبيرها تصبح في الفيلم مصابة بمرض الربو الصدري -وهو مجاز عن شعورها بالاختناق الدائم- الذي يدفعها هي والأم إلى الإسراع في جمع المال من قتل الزبائن من أجل مغادرة السماوات الرطبة القاتمة إلى مصر الدافئة مرة أخرى.
الخادم والقفص
ثمة شخصية تجلس على عرش الأهمية في المعالجة السينمائية، ربما لم يكن لها الحضور نفسه في النص الأصلي، وهي شخصية الخادم شبه الأصم الذي من المفترض أنه يعاون عصابة الأم والابنة في التخلص من جثث الزبائن بعد سرقتهم، حيث يبدو الخادم في النص رمزًا لقوى العالم المتخلية عن الإنسان، التي تصم أذنها عن أي نداء أو استغاثة منه، حتى أننا في نهاية المسرحية حين تستغيث به الزوجة التي جاءت للبحث عن زوجها/ الابن المغدور تسأله: هل يمكن أن تساعدني؟ فيقول لها لا!
بينما في الفيلم يشكّل السيناريو شخصية الخادم بصمم كامل وبِبُكم بيّن، بل تراجع ذهني واضح يجعله أقرب لنصف إنسان ونصف حيوان أو كائن غير بشري، مهمته أن يحمل الجثث كما نراه في المشاهد الأولى ويتخلص منها بإلقائها في البحيرة القريبة مع وضع هلب ضخم لضمان عدم طفوها.
يصنع السيناريو من شخصية الخادم نموذجًا للطبيعة البكر البريئة التي يستخدمها البشر المعقدون من أجل إشباع أمراضهم النفسية المتوطنة، هذا كائن بجسد رجل وعقل طائر، يحب العصافير والنوارس، ومتعته أن يفرد ذراعيه محاولًا أن يرتفع معها، وكأنه رغم صممه يسمع زقزقتها العالية، بل يوازي المونتاج بين جلوسه على شاطئ البحيرة ينعم بلحظات وجودية صافية بحكم عقله الصغير وبين كلب يمرح في الماء لا مباليًا، ثم يتخذ مشهد الكلب دلالته بصورة أكثر وضوحًا حين نرى الأم في مشهد تالٍ وهي تجرّ الخادم بسلسلة من يده كأنه حيوانها الذي تخشى فراره أو شقاوته بينما تتسوق، أو هكذا تبدو نظرتها إليه وموقعه بالنسبة لحياتها.
ورغم اتجاه السيناريو بكليته للدراما النفسية فإنّ هذا لا يمنع من بعض المجازات الفلسفية الواضحة تأثرًا بلا شك بالنص الأصلي، ففي الفيلم ثمة علاقة وطيدة بين ظهور القضبان كمجاز بصري وبين رغبة الابنة في العودة إلى مصر وبين حلم الخادم الأبله بالطيران والتحليق.
في المشهد الأول وفي ليلة ماطرة يأتي نزيل مجهول للفندق فنراه من خلف قضبان النافذة وهو يعد النقود للدفع إلى الأم، فتبدو القضبان أقرب لشبكة أو مصيدة، ثم عندما تقدّم الابنة الجميلة الشاي المسموم إلى النزيل نراها عبر انعكاس صورتها على مرآة صغيرة وهي تهبط من غرفته كأنها محبوسة في هذا السياق غير الإنساني لفكرة الشر وخيانة الأمانة.
هناك هاجس مجازي للرغبة في التحرر والخروج يسيطر على الابنة والخادم؛ هي تعاني الكبت والحرمان العاطفي والجنسي فيوازي السيناريو بينها وبين العصفور الصغير في القفص الذي تشتريه الأم للخادم من أجل إسكاته، فنرى الابنة من خلال قضبان القفص كأنها هي نفسها العصفور الذي يتخبط بداخله، وينتهي المشهد بأن يقبض الخادم الأبله على العصفور كأنه لعبة بلا روح، فيخنقه بدلًا من أن يحرره، وهي إرهاصة للمصير الذي سوف تلاقيه الابنة، بل الأسرة كلها بعد أن يغلبها سوء التفاهم الحادث بينها وبين العالم.
يلعب السيناريو مع النص الأصلي لعبة تبادل الأدوار؛ فبدلًا من أن تدفع الابنة الأم لقتل النزيل/الابن العائد، تقنع الأم ابنتها في الفيلم بضرورة قتل الشاب المصري الذي لا تعلم أنه ابنها! انطلاقًا من كونه يشبه رمزي حبيب الابنة الأولى العابث الماجن القادم بمال وفير ليبدده على ملذّاته.
فالأم مصابة بعقدة من الرجال بسبب زوجها الذي طردها وحرمها من ابنها، والابنة بسبب الحبيب الخائن، فلعبة التبديل إذن ليست مجانية، فالسيناريو يريد ضمان قاعدة أعرض ممن يجدون في الدراما النفسية مشتهى أكثر جاذبية من الأطر الفلسفية صعبة المنال فكريًّا.
وتجدر الإشارة إلى أن السيناريو يتحرر بصريًّا من الحصار الخانق للأوتيل في النص الأصلي، ويستغل بصورة تؤكد المعنى على التناقض بين الطبيعة الجميلة التي تحيط بالنزل الصغير الذي يمكن أن يصبح جنة رقراقة الأثر، وبين تحول المكان إلى مسلخ يفقد فيه النزلاء أرواحهم بسبب نفوس مشوهة، وتتحول البحيرة إلى مقبرة جماعية بسبب العُقد النفسية المركبة للبشر.
ربما كان هذا هو المجهول المقصود بالفيلم؛ فليس العالم هو العبثي أو اللامعقول، بل إن البشر أكثر تعقيدًا من العالَم، وأكثر عبثيةً ولامعقولية، حتى أن الأم يمكن أن تقتل ابنها وهي لا تدري! وأن الأخت من أجل أن تتحرر عليها أن تقتل أخاها الذي انتظرته طويلًا كي يضمها كرجل آمن، لا تخشى معه غدر الزمن والآخرين.
المصدر: سوليوود