أفلام الطريق في السينما السعودية
غفران قسَّام
البناء الإخراجي للميزانسين Mise-en-scéne: تنوعت رواية السينما في السعودية للحكايات، بل أصبحت تقدمها من مناظير أكثر عمقًا ووعيًا، ثقافة وفلسفة، سواء أُخرجت الأفلام بعدسة مُخرجين محليين أو مُخرجين عرب، أو عالميين. ومن تلك الإمكانيات الإخراجية التي يُشار إليها بالبَنان، فيلم «سكة طويلة» أو «Route 1» للمُخرج عمر نعيم (2022م). إذ قدم المُخرج عملاً إخراجيًا مُحكم البناء بكل تفاصيله ولقطاته، وشخوصه، وأمكنته، وألوانه، وإضاءته؛ ثم بناءها في قالب عمل سينمائي يخاطب الجمهور بخطاب بصري يصور الحكاية؛ ليشاهدها الجمهور، ويسمعها، ويشعر بروح مكان الصحراء في المملكة، وهدوئها الآسر، ولونها الساحر بتقنية لونية عالية في الدقة والإضاءة؛ لتغذية الإشباع البصري والفكري والروحي عند المشاهدين.
إذ قدم الفيلم طريق-10، وتميزه باستقامته التي دخل بها موسوعة غينيس العالمية كأطول طريق مستقيم في العالم يصل جنوب محافظة الأحساء في السعودية بمدينة أبوظبي في الإمارات المتحدة مسيرة ثماني ساعات. ويبدو ذلك التكوين الإخراجي للقطات السينما أكثر مع مصطلح: الميزانسين السينمائي يستخدمه المُخرج في السينما لتكوين اللقطة؛ كي يقدم كل التفاصيل التي يمكن بها توصيل المشاعر الموجودة في اللقطة في الفيلم. لهذا، يُمكن للمُخرج بناء رؤية إخراجية دقيقة عبر تلك الفنية؛ لأنها تعمل على تصوير حركة الممثلين بدقة مع تنوع انفعالاتهم، وزوايا حركة الكاميرا، خاصة مع المشاهد الخطرة، والإضاءة لا سيما مع بحر الرمال والكثبان الذهبية، والديكور الذي ظهر غالبه بسيارة فارهة مثل «بي إم دبليو».
ولعل أكثر ما يميز فيلم “سكة طويلة” أنه ينتمي إلى نمط أفلام الطريق. أشار إليها الباحث عصام زكريا أنها نمط يستهوي عددًا من صناع الأفلام في السعودية، وينسج صورًا فريدة لجغرافيا سينمائية بامتياز. ويلاحظ أن فيلم السكة لم يكن وحيدًا في ساحة السينما المحلية، بل يوجد أيضًا فيلم «مدينة الملاهي»، للمُخرج وائل أبو منصور (2020م)، الذي قدم تجربة سينمائية مشحونة بغرائبية المكان، وثقافة الثقب الأسود وما فيها من الرمزيات البصرية والأبعاد الفلسفية في أحداث البطلين المسافريْن: «مسعود» و«سلمى». ويرى النقاد تقاطع التجارب السينمائية المحلية مع تجارب سينمائية عالمية عن أفلام طريق تحمل طابع الإثارة والغموض والحركة، مثل إخراج ديفيد لينتش فيلم “قصة مستقيمة – The straight story” لعام (1999)، وإخراج جون هيلكوت فيلم “الطريق” The road (2009). وربما يثير أيضًا لون الطريق الذهبي في فيلم السكة ذاكرة الجمهور عما كان طابعًا لونيًا في رائعة الأدب الأميركي «ساحر أوز العجيب»، لكاتبها ليمان فرانك بوم، وإخراج فيكتور فليمنغ.
تنبسط أسارير الأرض في فيلم “سكة طويلة”، لأنها قدمت أحداث فيلم الطريق في السعودية عبر الإحساس الشاعري للمُخرج، وتلك الصور المُلهمة التي ساعدت في تنمية موجة جديدة في السينما السعودية. يبدأ الطريق حين ألغيت فجأة رحلة طيران ليسافر «ناصر وأخته مريم» إلى والدهما من الرياض إلى أبو ظبي. ثم تنفيذ توجيه والدهما القسري بالسفر برًّا؛ لضرورة حضور مراسم زواجه الجديد. فينطلق الأخوان في السفر برًّا، مع تجاذبهما أطراف أخبارهما طيلة الطريق؛ كونهما يعيشان علاقة عائلية مفككة بعد رحيل والدتهما، لكن ما عكر صفو تلك الأحاديث الرقيقة هو فخ المطاردة الذي لم يكن اعتباطيًا! وتظهرهما الكاميرا في لقطات مقربة ضيقة مع المشاهد الخطرة أثناء المطاردة، وتارة في لقطات بعيدة شاعرية من كل زاوية مع لحظات الهدوء والسكون بينما يتحول الطريق الإسفلتي إلى طريق ترابي في مشاهد الإثارة، ويزيدان من سرعتهما في مشاهد الملاحقة وسط الكثبان الرملية. وبمجرد اقترابهما من البطحاء تمتلئ الصحراء بغنائهما أغنية والدتهما الراحلة «سكة طويلة» لعبادي الجوهر التي تتحدث عن الصحاري الفارغة والمسكن المهجور، والحنين لاجتماع العائلة والطريق الذي يبدو طويلاً دون أُنس حضور الأحبة.
أما في فيلم «مدينة الملاهي»، فالزوجان بسيارتهما ذات الطراز الثمانيني يهيمان في الطبيعة المقفرة وسط السعودية عبر أثير الحديث الإذاعي عن العلم والإيمان لمصطفى محمود؛ مما يقدم نغمة وجودية فلسفية ذات عمق ثقافي في الأفلام المحلية. لكن مشاهد الطريق تبدو أكثر طبيعية في فيلم السكة مع الصحراء المترامية الأطراف بكثبانها الرملية الساحرة، وحصواتها اللامعة التي تمتد بطول 240 كلم يحدث فيها أحداث المطاردة بين سيارة جيب بيضاء مجهولة الهوية، وسيارة البطلين وانتهت الأحداث بموت المجهول بعد صراع مرير. كما تتبادل الكاميرا عرض لقطات مقربة للحياة الحيوانية في الصحراء عبر ظهور الجمال، والحشرات كما في مشهد خطورة لدغة العقرب، ومحافظة البطلة على حياته وعدم قتله؛ لأنه كائن حي! كذلك تظهر اللقطات البانورامية الفاتنة جمال صحراء المملكة العربية السعودية وقفرها المثير للرهبة والخشوع مما يعزز فكرة إعادة بناء الروح والفكر كما حدث مع البطلين. أما عدسة فيلم «مدينة الملاهي»، فتسبر ذلك الخواء الغرائبي داخل زمن الثقب الأسود العجائبي الذي عُبر عنه في بداية الفيلم بانتقال لقطة الكاميرا إلى بقع سوداء عشوائية في حروف عنوان الفيلم؛ مما يعكس طريق البطلين أثناء سفرهما نحو أمكنة عبثية تثير فكرة العدم والوجود.
ويظهر ذلك الخواء في شخصيات مدينة الملاهي: كالميكانيكي وأعماله الغامضة، وصاحب مدينة الملاهي التي لا تبدو ترفيهية للأطفال – كما هو مألوف – بل مهجورة من الطفولة والمرح البريء، وتحمل طابعًا سرياليًا ختمت أحداث البطل فيها ببروتريه عنه عُلقت في حائط ممتلئ بنماذج تشبهها عن عابرين آخرين في المكان.
ويرجح بعض النقاد إن إتقان تكوين الميزانسين السينمائي لأفلام الطريق، وإضافة أعمال الإثارة والغموض إليها كما في فيلم «سكة طويلة»، ليُساهم في تحقيق متعة تشويقية وشغفٍ في متابعتها جماهيريًا، مما يرفع من نسب مشاهدتها عالميًا في المنصات الإلكترونية.
باحثة دكتوراه مهتمة بالدراما والسينما
المصدر: سوليوود