آراء

باربي.. و12 رجلاً غاضبًا

ريما التويجري

لحسن حظي، قُدِّر لي أن أقرأ كتاب The Art Of Watching Films لبوجز – الذي سيدفق لقارئِه تفاصيل مهمة عبر الآفاق النقدية السينمائية – قبل فترة قصيرة مِن استشاطة بركان المبالغات، وتعدد الآراء، حتى إن البعض لم يعد يقرأ ويفهم ما لا يعجبه، وهذا بحد ذاته قِصر إدراكي.

وهنا، لا أحتمل إطالة المقدمة، لنصعد إلى سطح الجدية بعيدًا عن المزاح الجدلي، ننظر في الفن الذي حبكه فيلم غيرويغ الأخير، فبينما يرنو أوبنهايمر إلى الماضي التليد، تسبر باربي الزمن الوليد، وحينما توجد نزعة نفسية واضحة تحت القبعة السوداء، توجد نزاعات نفسية متخفية خلف الابتسامة الوردية.

بفك الشفرة، تُفهم العِبرة! استوحت المخرجة الكثير من ملامح أشهر الأعمال الفنية بكل أنواعها، وما تحمل تلك الأعمال من رسالة، وبدأت مشهدها الأول بذلك، بل إن هنالك مقالات عدة بقائمة تضم غالبية استلهامات الفيلم؛ إذ استوحت من عدة أشكال فنية سواءً من السينما، أو المسرح، ومن الشخصيات، والحركات أيضًا، وحتى الألوان؛ مما جعلني أنا وصديقة سينمائية عند حضوره نتحدث همسًا بين فتراته، فمرة تقول لي هذه الإشارة من فيلم Monty Python، ومرة أقول تلك الإشارة من فيلم The Shining، إذ شعرنا بها كوسيلة ذكية تربط معنى محددًا.

وبطريقة غريتا، وعلى غرار بساطة محاكمة فيلم 12 Angry Men بمراحله الاستدراكية، أريد أن أحاكي مقالي هذا به، وبمرور ذكره أريد أن أشيد بأهمية الفيلم بطريقة تقديمهِ لدروس إدارية، ونفسية، وتسويقية بتبسيط شيِّق.

تخيل معي لو لدينا 12 رجلاً، الأول غاضب من سوء الفيلم من ناحيته الإخراجية، لأنه لم يدرك أن اللوحة الفنية لن تشعَّ إلا بوجود روح رسَّامها فيها، وكذلك المخرج! كونه المسؤول عن توظيف كافة العناصر في مكانها الصحيح حسبما يرى، وبما يطابق القواعد الأساسية. ففي العموم، وفي كثير من المواضع من اختيار الطاقم التمثيلي إلى تسلسل الأحداث وإيقاعها، كان جيدًا إخراجيًا، كما نجحت المخرجة بإظهار لمساتها فيه.

وعندها تقدَّم الثاني بوصفه لعيوب العناصر المرئية، وعادة تقلُّ قيمة الأفلام بسبب وقوعها في أخطاء غير مقصودة، ومنها جودة الصور، والضوء والظل، والديكور والملابس، وغيره. ولذا، من ذكاء غريتا أنها اعتمدت في التكوين السينمائي لباربي على تدرجات ألوان أفلام الفرنسي جاك ديمي، الذي عرف باستخدامه طيفًا متنوعًا من طبقات الألوان المتباينة المدروسة.

أمَّا الثالث، فعبَّر عن عدم إعجابه بالحوارات. وبلا شك الحوار ليس بالجزء السهل في صناعة الأفلام، وأن تخرج من الفيلم متمسكًا بعبارة تحوم في ذهنك، ما هو إلا إثبات وعنصر من عناصر النجاح الحواري؛ إذ تداولت جملة باربي في وسائل التواصل الاجتماعي: “أريد أن أكون من الأشخاص الذين يصنعون المعنى، وليس من الأشياء التي تُصنع” لتأثيرها على العموم، كما كانت أغلب الحوارات تمد رسالة الفيلم عبرها.

والرابع تنمو لديه عناقيد الغضب على البؤرة – أي الغاية – وهذا جعلنا جميعًا مندهشين منه؛ لأن الفيلم جاد ويحاول أن يوصل شيئًا أكثر من مجرد فيلم ترفيهي، لأن هذه الموضوعات العامة مهمة لكل إنسان.

الخامس كرِه الموسيقى! وما الموسيقى والغناء إن لم يشعرانا بحالة المشهد. يتميز باربي بلحظات موسيقية عديدة، في اعتقادي أكثر أغنية لها معنى أعمق مما عزز جو الفيلم هي “Push” لفرقة أميركية تدعى Matchbox 20 من التسعينيات الميلادية، إذ تمثل أغنية كين “رايان غوسلينغ” المفضلة في الفيلم.

سادسهم منزعج من السيناريو، فقبل صدوره لم نتخيل سيناريو نوح باومباخ مشاركًا غريتا، الذي يفترض أن يكون عن قصة تجارية لدمية نلعبها أطفالاً قبل سنوات؛ أن يتشعب لعدة مواضيع من: “ما الأنثى، وما الرجل، كيف يجب أن تكون، كيف تتهم بقالب نمطي سلبي بسهولة، كيف يتم تنميط فكرك، وما إلى ذلك”. ببساطة شديدة، من خلال عكس المشهد الحالي، حيث بنوا نقطة انعكست سلبًا على الفيلم، ولم يفهمها العديد من المشاهدين؛ لأن باربي الفيلم لم يُصور أن هذا العالم صحيح، وهذا العالم خاطئ! بل أثبت أن كليهما يبث التحيُّز التطرفي، وكليهما يحمل ذات الظلم للجنس الآخر. النقطة السلبية بالنسبة لي النقصان السردي في مراحل فارقة في القصة، كنت أتمنى حينها وجود مشاهد تحمل تفاصيل أكثر تبرر الأحداث.

وهنا السابع يشكو من طريقة العناصر الدرامية، وممَّا تشكو وأول 10 دقائق تقريبًا كاد أن يكون أشهر مشهد في الفيلم كله؛ طريقة ذكية في طرح رسالة مفادها ليس معاداة “الأمومة” كما يظن البعض، بل إن مجتمعاتنا السابقة كانت تعرِّف المرأة (أم)، وهذا ليس صحيحًا بالمطلق، كوني امرأة قيمتي هي نفسي، ليس ما أنجبت.

وهنا نتفق سويًا مع الثامن الذي شتم المتاجرة بالأفلام؛ المتاجرة تعني أن تسلب روح الفنان من فنِّه تلبية لرغبة الجماهير. وأعلم أن الفيلم لديه رغبة في تلميع باربي الدمية، والانسياب بما يتناسب مع الثورية الجماعية، لكن لم يكن شاطحًا في سرده أبدًا. كل ما تناوله، تناوله بموضوعية سويّة، ومعتدلة المنطق؛ إذ عندما زار كين العالم الحقيقي، على الرغم من أنه بعيد عن الكمال، لكنه أكثر مساواة من عالمهم، حيث يوجد أطباء وعاملون من كلا الجنسين.

والتاسع لم يشاهده لأنه يتعارض مع التعاليم الاجتماعية.. عزيزي التاسع هي تعاليم؛ أي كل ما هو قابل للتطور، وما يميِّز المجتمعات المزدهرة هو قابليتهم على المرونة الفكرية وقبول التغيير الإيجابي، بما يوافق المبادئ الإسلامية.

والعاشر اتهم الفيلم بتشويه صورة العالم الواقعي. وفي ذلك الجانب، قرأت كتابًا عن بيلي وايلدر، أن هناك مدرسة فنية في الرسم تسمى “الحقيقة”، وتأثر المخرج بها كثيرًا أثناء إقامته في برلين، حيث تهتم بمعالجة موضوعات الحياة، والقضايا الاجتماعية بدلاً من السعي وراء المآثر البطولية. تسربت فلسفة “الحقيقة” إلى أعمال وايلدر الدرامية والكوميدية، وأعتقد يمكننا أن نصنف الفيلم تحت هذه الحركة.

في نهاية جلستنا، الحادي عشر كان تبعيًا ورأيه من الرأي السائد. أمَّا الثاني عشر فأعجب به، لكنه لم ينطق أبدًا.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى