نقل “المعرفة المؤسسية”
عمر غازي
حين أصدر البنك الدولي قبل أعوام إطارًا خاصًا بالحوافز لتحسين “مشاركة المعرفة وإعادة استخدامها” داخل مؤسساته، لم يكن الأمر ترفًا تنظيريًا بل استجابة لمشكلة حقيقية ظهرت في تقييمٍ داخلي تبيّن فيه أن فرقًا مختلفة تعيد اختراع العجلة في مشروعات متشابهة لأن خبرات المشاريع السابقة بقيت حبيسة حواسيب أفراد أو عقولهم، فتنفق المنظمة الوقت والمال مرتين على الأخطاء نفسها بدل أن تبني من اليوم الأول على ما تعلّمته أمس، هذه القصة التي وثقها البنك الدولي ليست استثناءً نادرًا بل مرآة صادقة لما يحدث في كثير من الشركات حين يغيب نظام حقيقي لنقل المعرفة وتبقى المؤسسة معلقة بأكتاف أشخاص لا بكتفين مؤسسية واسعة.
المعضلة في جوهرها أن الشركة التي لا تمتلك آليات واضحة لنقل المعرفة لا تتحول إلى كيان مؤسسي مهما كثرت أقسامها أو كبر مبناها، بل تظل أقرب إلى مجموعة “أفراد خبرة” يدير كلٌّ منهم جزيرة صغيرة يسيطر عليها وحده، فإذا غاب أحدهم عن العمل أو ترك الشركة تعطل المسار كما لو أن العجلة اخترعت معه وستدفن معه، في حين تشير أدبيات “المنظمة المتعلمة” في جامعات مثل “Harvard Business School” إلى أن الفارق الجوهري بين شركة تعيش بالصدفة وأخرى تعيش بالتصميم هو القدرة على تحويل الخبرة الفردية إلى معرفة جماعية قابلة لإعادة الاستخدام، أي أن السؤال لم يعد من الأذكى بين الأفراد بل من الأذكى في تحويل ذكاء الأفراد إلى رصيد مشترك.
أظهرت دراسة صادرة عن “Journal of Knowledge Management” عام 2016 حللت بيانات مؤسسة في القطاع العام أن مشاركة المعرفة بين الموظفين ارتبطت ارتباطًا إيجابيًا واضحًا بأداء الأفراد في أعمالهم اليومية، وأن الفرق التي تتبادل خبرتها بانتظام تحقق نتائج أعلى في إنجاز المهام وجودة المخرجات مقارنة بالفرق التي يحتفظ فيها كل فرد بما يعرفه لنفسه، كما خلصت مراجعات أوسع نُشرت في دوريات متخصصة عام 2022 و2023 إلى أن ثقافة مشاركة المعرفة ليست مجرد قيمة جميلة في اللوحات الجدارية بل عامل ملموس في تحسين الأداء الكلي للمؤسسة ورفع قدرتها على الابتكار والتكيف مع التغيرات، إذ تصبح كل تجربة ناجحة أو فاشلة مادة خامًا يبنى عليها ما بعدها بدل أن تُترك لتتكرر كما لو أنها حدثت لأول مرة.
في المقابل بيّنت مراجعة أدبية حديثة حول “احتكار المعرفة” نُشرت عام 2023 أن حبس المعرفة عن الزملاء يترك أثرًا سامًا داخل الشركات، حيث يرتبط بانخفاض الروح المعنوية وارتفاع الصراعات وتراجع الأداء العام، وأشارت مقالات تحليلية متخصصة إلى أن هذه الثقافة تُولِّد جزرًا منعزلة وسدودًا غير مرئية بين الإدارات تعطل التواصل وتعرقل النمو، بل إن إحدى الأوراق البحثية وصفت الاحتكار المزمن للمعرفة بأنه “حالة تحتاج إلى علاج” لأن تأثيرها لا يقف عند حدود تعثر المشاريع بل يمتد إلى شعور الموظفين بالظلم وفقدان الثقة في عدالة بيئة العمل، وكل ذلك يعيد الشركة خطوة خطوة من منطق المؤسسية إلى منطق المزاج الفردي والأهواء الشخصية حيث يمكن لشخص واحد أن يعطل أو يمرر ما يشاء لأنه وحده يحتفظ بالمفاتيح التقنية أو الإدارية.
الكثير من الموظفين الذين يُمسكون بعصب أنظمة أو ملفات حساسة لم يأتوا بهذه المعرفة من الخارج بوصفها رأس مال شخصيًا بل تلقوها أصلًا داخل الشركة عبر تدريبٍ أو تدرجٍ وظيفي، ومع ذلك يتحول بعضهم مع الوقت إلى “حراس بوابة” يتهربون من تدريب زملائهم أو توثيق خبرتهم أو ترك أي أثر مكتوب يمكن أن يعيش بعدهم، وقد كشفت دراسات في مجلات مثل “Journal of Business Research” و”Journal of Knowledge Management” أن دوافع إخفاء المعرفة تتراوح بين الخوف من فقدان الأهمية والقلق من المنافسة الداخلية والسلوك الانتقامي أو ما يسمى “الصمت الدفاعي”، أي أن الموظف يختار أن يسكت عن مشاركة ما يعرفه دفاعًا عن نفسه لا حفاظًا على مصلحة العمل، وهنا تصبح الشركة أسيرة مشاعر أفرادها بدل أن تكون حاضنةً عادلة تنظم هذه المشاعر وتُخضعها لقواعد واضحة.
المشكلة الأخطر أن كثيرًا من المؤسسات تتعامل مع نقل المعرفة باعتباره سلوكًا أخلاقيًا اختياريًا لا جزءًا من الواجب الوظيفي، فيُترك الأمر لضمير كل موظف ومزاج كل مدير، فإذا صادفت شخصًا كريمًا في علمه انتفعت الشركة، وإذا صادفت شخصًا يحتكر ما تعلمه تحولت خبرته إلى أداة نفوذ يساوم بها إدارة ضعيفة، بينما الأبحاث في مجال إدارة المعرفة تذهب في اتجاه مغاير تمامًا، إذ خلصت دراسة تجريبية منشورة في “Journal of Information Systems” عام 2008 إلى أن الحوافز المصممة بعناية قادرة على تحفيز مشاركة المعرفة بشكل ملحوظ بشرط أن تكون كافية وواضحة، كما أظهرت دراسة أخرى مبنية على بيانات من مستهلكين فاعلين أن الحوافز الملموسة المرتبطة بالنشاط نفسه هي الأكثر تأثيرًا في تشجيع مشاركة المعرفة مقارنة بالشعارات العامة أو الوعود الفضفاضة، أي أن نوايا نشر المعرفة وحدها لا تكفي ما لم تُترجم إلى تصميم حقيقي في أنظمة التقييم والمكافآت.
من هنا تبدو الحاجة إلى “نظام صارم” للتعامل مع نقل المعرفة ليست دعوة إلى التشدد بقدر ما هي حماية للمؤسسة من أن تتحول إلى رهينة، فالشركة التي لا تجعل نقل المعرفة جزءًا مكتوبًا من الوصف الوظيفي، ومكوّنًا واضحًا في تقييم الأداء، وشرطًا صريحًا للترقية، ستجد نفسها بعد سنوات أمام موظفين يملكون قدرة صامتة على تعطيلها لمجرد أنهم وحدهم يعرفون كيف تعمل الأنظمة أو أين تُخزّن الملفات أو كيف تُدار العلاقات مع العملاء، بينما الموظف الذي يشارك زملاءه ما تعلمه ويؤطر خبرته في أدلة وإجراءات أو جلسات تدريبية يبقى في كثير من الأحيان في المرتبة نفسها مع من يحتكر المعرفة لأن ميزان التقييم لم يمنح الفارق في السلوك أي وزن حقيقي، وهنا تتسلل رسالة ضمنية مفادها أن العقل المغلق لا يدفع ثمن إغلاقه.
الربط بين الترقية وبين نقل المعرفة ليس ترفًا تنظيميًا بل خطوة بديهية إذا أردنا أن يكون من يتقدم في السلم الوظيفي هو من يوسّع أثره لا من يحبس ما يعرفه عن الآخرين، فالمسؤول الذي يَترشّح لإدارة فريق ينبغي أن يُسأل أولًا عمن درّبهم، وما الذي دوّنه من خبرته، وكيف ساهم في بناء جيلٍ يشاركه ما تعلمه بدل أن يظل محاطًا بفجوة معرفية بينه وبين مرؤوسيه، والأمر نفسه ينطبق على الحوافز السنوية والتقييم الإيجابي، إذ يمكن أن تُربط نسبة معتبرة من المكافأة بقياسٍ بسيط لجهود نقل المعرفة من خلال عدد الجلسات التدريبية الداخلية التي قدّمها الموظف، أو جودة الوثائق التي أعدها، أو مشاركته في منصات المعرفة الداخلية، وقد بيّنت نماذج لدراسات حالة على منظمات دولية أن إدخال هذه العناصر في نظام الحوافز ساهم في تحول الثقافة العامة من “الاحتفاظ بما نعرف” إلى “البناء على ما نعرف معًا”.
يبقى أن الشركة التي تقرر بجدية ربط الترقية والحوافز والتقدير بنقل المعرفة تحتاج أيضًا إلى حماية من جهة أخرى، فهي مطالبة بأن توفر بنية تحتية تجعل مشاركة المعرفة ممكنة وليست مجرد شعار، من أدوات رقمية يسهل معها توثيق الدروس المستفادة والبحث فيها، إلى وقتٍ مخصص في جداول العمل للقاءات التعلم الداخلي، إلى قيادة تعطي مثالًا حيًا حين تشارك ما تعرفه بدل أن تطلب من الآخرين فقط أن يفعلوا، عندها فقط يصبح الموظف الذي يحتكر المعرفة منذ اليوم الأول حالة شاذة يصطدم بنظام لا يكافئ سلوكه ويحد من أثره، بينما يتحول الموظف الذي يضاعف أثره في زملائه إلى نموذج طبيعي يُفتح له الطريق لأن المؤسسة تقيس قيمته بما يضيفه للمجموع لا بما يحتفظ به لنفسه.
ويبقى السؤال الذي يكشف حقيقة أي شركة هل نبني مكانًا يعيش بمعرفة جماعية موثقة تستطيع أن تنجو من غياب الأفراد وتغيّر الأسماء، أم نترك الأمور تمضي كما هي لتبقى المعرفة حكرًا على أشخاص يتقدمون في الظاهر باسم الخبرة بينما هم في العمق يحبسون المؤسسة في حدود ما يعرفونه هم وحدهم، فإذا غابوا أو تغيّر ولاؤهم اكتشفنا أن كل ما نظنه عملًا مؤسسيًا لم يكن سوى جهدٍ معلق بخيط رفيع اسمه شخص لا نظام.



