عمر غازي

رسائل مموّلة

رسائل مموّلة

عمر غازي

هل تنجح الحملة عندما تخدع الجمهور؟
وهل يقاس التأثير بعدد الظهور… أم بصدق الانطباع؟
ثم، من يربح أكثر: من يقول الحقيقة ويخسر المعلنين، أم من يبيع الجمهور قطعة دعائية مغلّفة بكلمات شخصية؟
وماذا لو عرف المتلقي لاحقًا أن كل ما سمعه، أو قرأه، أو شاركه، لم يكن أكثر من جزء من خطة تسويق مدفوعة؟

في عام 2021، نشرت مجموعة Edelman العالمية تقرير الثقة السنوي، وتضمن استطلاعًا شمل أكثر من 33 ألف مشارك من 28 دولة، أظهر أن 63% من المستهلكين في الشرق الأوسط يشعرون بالخداع حين يكتشفون أن المحتوى الذي تابعوه لم يكن توصية حقيقية، بل إعلانًا مقنعًا، وفي استطلاع أجرته منصة Statista عام 2022، قال 42% من مستخدمي “إنستغرام” في المنطقة إنهم توقفوا عن متابعة مؤثرين بعد أن لاحظوا تكرار محتوى ترويجي غير معلن عنه بوضوح. وهذا لا يعني فقط تراجع الثقة، بل يشير إلى نقطة حرجة: عندما يعرف الجمهور أن ما يتلقاه موجّه ومدفوع… تسقط الفكرة، ويُفقد التأثير.

نجاح الحملات الموجّهة لا يُقاس بما تُنفقه من ميزانية، بل بما تُخفيه من صفتها التجارية، فالحملة تنجح حين لا يعرف الناس أنها حملة. لكن هذا النجاح، من حيث البُعد الأخلاقي، هو فشل مؤجل. لأن الجمهور، في النهاية، لا يحتمل الشعور بأنه كان هدفًا مقصودًا، وأن رأيه لم يكن نتيجة اقتناع، بل نتيجة تلاعب في التقديم، والتكرار، والتوجيه العاطفي.

في تقرير صادر عن هيئة تنظيم الإعلام البريطانية Ofcom عام 2023، تبين أن المحتوى الدعائي غير المُعلَن عنه بوضوح يشكّل خرقًا لمبدأ “التمييز بين الرأي والإعلان”، مما أدى إلى توصيات بتغليظ الرقابة على المؤثرين، وإلزامهم بتوضيح طبيعة المحتوى المدفوع، خاصة إذا كان في مجالات حساسة كالصحة، والتمويل، والهوية.

وتؤكد تقارير أخرى صادرة عن المفوضية الأوروبية للإعلام الرقمي، أن عدم الإفصاح عن العلاقة التجارية بين المعلن وصانع المحتوى يخل بشرط “الشفافية المتعمدة”، وهو أحد أركان ميثاق أخلاقيات الاتصال المعتمد أوروبيًا منذ 2019. وقد أصدرت فرنسا، وألمانيا، والإمارات لوائح صريحة تُلزم المؤثرين بالإفصاح عن الإعلانات، ولو ضمنيًا، خشية تضليل الجمهور أو توجيه سلوكه الاستهلاكي دون وعي منه بذلك.

وقد لحقت السعودية في السنوات الأخيرة بهذا الاتجاه بشكل واضح، إذ أعلنت هيئة الإعلام المرئي والمسموع في لائحتها التنفيذية المحدثة لعام 2022 أن أي محتوى ترويجي يتم تقديمه من قبل المؤثرين يجب أن يُعلن عنه صراحة بوضوح تام، مع تضمين عبارات مثل “إعلان مدفوع” أو “محتوى ترويجي”، وذلك تحت طائلة غرامات مالية قد تصل إلى 400 ألف ريال، أو حتى حجب الحساب، وفي تقرير مشترك بين الهيئة العامة للإعلام وهيئة الغذاء والدواء نُشر في 2023، تم رصد أكثر من 150 مخالفة تتعلق بمحتوى ترويجي خادع لمستحضرات ومنتجات صحية أعلن عنها مؤثرون دون تصريح أو توثيق طبي.

لكن في المقابل، لا يزال المشهد العربي يفتقر إلى معايير أخلاقية موحدة لحملات العلاقات العامة والدعاية الرقمية. إذ تُدار أغلب الحملات الموجّهة على منصات التواصل عبر صيغ يصعب تصنيفها: هل هي رأي شخصي؟ أم محتوى مدفوع؟ وهل تم اختيار المنتج بناءً على تجربة حقيقية؟ أم بناءً على رقم في الحساب البنكي؟

في دراسة ميدانية أجرتها جامعة الملك عبدالعزيز عام 2022، تبين أن 71% من المشاركين يعتقدون أن المؤثرين في السعودية لا يضعون لأنفسهم ضوابط لاختيار ما يعلنون عنه، وأن أغلبهم يعلن عن منتجات لم يستخدمها أصلًا، بينما قال 64% إنهم فقدوا الثقة بالحملات التي يظهر فيها أكثر من مؤثر يردد نفس الجمل والمزايا خلال فترة قصيرة.

والسؤال هنا لا يقف عند حدود التأثير، بل يتجاوز إلى السؤال الأخلاقي:
هل من حق الجمهور أن يعرف أن الرسالة التي تصله جزء من حملة؟
وهل يُعَدّ إخفاء الجانب الدعائي نوعًا من التلاعب؟
وهل الجماليات البصرية، واللغة العاطفية، وقصص “التجربة الشخصية” التي يُروّج بها البعض للمنتجات… تظل بريئة حين يُكتشف أنها مجرد أدوات في خطة تسويق موسعة؟

المعيار الأخلاقي هنا ليس في الإعلان نفسه، بل في إخفاء الإعلان.
وحين تُبنى الحملة على التمويه، لا على الصدق، فإنها تُصيب المتلقي مرتين: مرة بالتوجيه اللاشعوري، ومرة بالإحباط حين يكتشف الحقيقة.
وما يتركه ذلك من أثر سلبي يتجاوز الفشل التجاري، ليصل إلى أزمة ثقة لا تُرمم بسهولة.

ولأن هذا النوع من الحملات آخذ في التوسع، فثمة حاجة واضحة إلى خارطة طريق تنظم هذه العلاقة الثلاثية بين: المعلن، والوسيط، والمتلقي
خارطة ترتكز على أربع قواعد مهنية:

1. الإفصاح الإبداعي: بحيث يَعرف الجمهور أن المحتوى مدفوع دون أن يتم إفساد التجربة، كاستخدام عبارات خفيفة مثل “بالتعاون مع”، أو “أشارككم رأيي بعد تجربتي بدعوة من…”.

2. اختيار المؤثر المناسب: لا من يملك أكبر عدد من المتابعين، بل من يملك المصداقية ضمن نفس المجال، فمروّج العطور لا يصلح لحملة توعية صحية، مهما كانت جماهيريته.

3. ربط الرسالة بالقيمة: لا يكفي أن يُروّج المنتج، بل يجب أن تُبنى الرسالة على قيمة تضيف للجمهور شيئًا، لا أن تستنزف انتباهه.

4. حماية الجمهور قانونيًا: عبر لوائح واضحة تلزم كل حملة موجهة بإعلان طبيعتها، وتمنع الترويج لأي منتج دون تجربة حقيقية أو مراجعة موثقة.

ويبقى السؤال:
إذا كانت الحملة تفقد تأثيرها حين يعرف الناس أنها حملة، فهل الحل أن نُخفي حقيقتها؟
أم أن الطريق الأصعب، والأصدق، هو أن نقنع الجمهور بالرسالة… لا بالزيف الذي يغلفها؟
وهل نربح الجمهور فعلًا… حين نخسر ثقته؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى