وهم الفهم

عمر غازي
كان سقراط يسير في شوارع أثينا عندما قال عبارته الشهيرة: “أعرف أنني لا أعرف”، لم تكن مجرد كلمات، بل كانت تعبيرًا عن إدراكه العميق لتعقيد الإنسان واستحالة الوصول إلى فهم مطلق للحياة، فكيف يمكن لإنسان أن يفهم غيره بشكل كامل، وهو بالكاد يستطيع فهم نفسه؟ نحن نعيش في زمن يعتقد فيه الجميع أنهم يمتلكون رؤية واضحة للعالم، بينما الحقيقة أن كل واحد منا هو متاهة من الأفكار المتضاربة والمشاعر المتناقضة، في محاولة مستمرة للبحث عن معنى لا نهائي.
في العصر الحديث، تتعقد العلاقات الإنسانية أكثر من أي وقت مضى، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022 أن 78% من الأفراد يشعرون بأنهم غير مفهومين بشكل كافٍ من قبل الآخرين، رغم التواصل الدائم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، المفارقة أن هذه الوسائل التي يُفترض أنها تقرّبنا، زادت من المسافات النفسية، حيث أصبح كل شخص يعيش داخل فقاعة من تصوراته الذاتية، يرى الآخرين عبر عدسة توقعاته، لا عبر حقيقتهم، فلا يوجد أحد يشبه أحدًا، وربما لا يوجد أحد يشبه حتى نفسه كما كان قبل سنوات.
في الماضي، كان الإنسان يعيش داخل مجتمع محدود، يتشارك فيه الجميع قيمًا متشابهة، ما كان يجعل الفهم المتبادل أمرًا أسهل، أما اليوم، فكل شخص يعيش داخل عوالم متشابكة من الثقافات والأفكار، مما جعل التواصل أكثر تعقيدًا، فبحسب تقرير صادر عن جامعة ستانفورد عام 2021، فإن 65% من النزاعات في العلاقات الشخصية تنبع من سوء فهم غير مقصود، حيث يفسر كل شخص كلمات الآخر بناءً على تجاربه الخاصة، وليس بناءً على نية المتحدث الفعلية، وهذا ما يجعل من التفاهم العميق أمرًا نادرًا.
لكن المشكلة لا تتوقف هنا، بل تتعمق عندما يتوهم الإنسان أنه يفهم نفسه بشكل كامل، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2020 أن 60% من الأفراد يغيرون قناعاتهم الأساسية أكثر من ثلاث مرات خلال عقد من الزمن، دون أن يدركوا ذلك بوضوح، مما يعني أن الإنسان ليس كيانًا ثابتًا، بل كائن متغير لا يمكنه حتى أن يمسك بثبات بحقيقته الشخصية، فكيف له أن يدّعي فهم الآخرين؟
لكن إذا كان الفهم المطلق مستحيلًا، فهل هذا يعني أن العزلة هي الحل؟ ليس بالضرورة، ربما يكون الحل في تقبّل أن العلاقات الإنسانية لا تقوم على الفهم الكامل، بل على مساحة من التسامح والمرونة، على إدراك أن الآخر ليس نسخة عنك، ولن يكون، على تقبّل أن كل إنسان هو كتاب لم يكتبه أحد سواه، وأن محاولة قراءته بفصول جاهزة لن تؤدي إلا إلى مزيد من الخيبة.
ويبقى السؤال: هل الإنسان بحاجة فعلًا لأن يُفهم، أم أن البحث عن الفهم مجرد محاولة للهرب من مواجهة تعقيداته الداخلية؟