
الوجود الافتراضي.. الحل في شاشة جوالك!
عبدالله المطيري
في أحد الإعلانات الرمضانية لشركة جوالات شهيرة تقدّم كاميرا الجوال للإنسان حلا سحريا لواحدة من مشاكله الأزليّة، حلا لم يكن ممكنا لولا التقنية. الإعلان كالتالي: أب يصوّر ابنه محتفلا بتخرجه من كلية الطب. أثناء التصوير يدخل الابن الثاني في الصورة دون ترتيب مسبق. بعد قليل يأتي الابن الذي احتفل به الأب في الصورة ليخبره بأنه قد ترك الجامعة. يُحبط الأب. ينظر في الصورة حيث تركيز الصورة على وجه الابن هذا الذي خذله الآن. يتألم الأب ويعم الحزن ملامح وجهه. ينظر في الشاشة مجددا. في لمسة واحدة يحيل التركيز من الابن الأول الذي خذله إلى الابن الثاني. يستعيد الأب ارتياحه. لتأتي العبارة التالية: بدلت رأيك؟ بدل التركيز. لهذه الحكاية سياق أعم. سياق الإنسان المعاصر مع التقنية الحديثة.
وفّرت التقنية الحديثة إمكانات غير مسبوقة. مثلا، خاصية البلوك مكّنت الإنسان من أن يتحدث في العلن ويحجب آخر معين من الاطلاع على حديثه. أو أن يحرمه من إمكانية التواصل أصلا. البلوك لا يعني عدم الرد على الاتصال، بل حجب إمكانية اتصال الآخر من الأساس. تطبيق الواتزآب مكّن الفرد من أن يقرأ رسالة الآخر ويحجب عن هذا الآخر إمكانية معرفة أنه قرأها من خلال الغاء خاصية الخطوط الزرقاء. والأمثلة كثيرة. كل حالة تستحق التأمل لكن لنعد للحالة الخاصة بهذا المقال. تبديل التركيز كحل. يمكن أن نلاحظ أولا أن هذه الخاصية حوّلت الإنسان من منفعل إلى فاعل بطريقة خاصة وهذا حدث هائل. يخبر الابن أباه بأنه ترك الكلية. يحزن الأب. هذا الحدث يمثل الحكاية الإنسانية المعتادة. الإنسان الذي ينفعل بما يفعله الآخرون. الإنسان المتلقي المستجيب. المتألم، الفرح. يحزن الإنسان إذا سمع خبرا حزينا ويفرح إذا كان الخبر مفرحا. هذا الانفعال تعبير عن اتصال الإنسان بغيره لا بوصف هذا الاتصال، قرار الذات وتعبيرها عن السيطرة على ما حولها بل باعتباره سلبية الإنسان الأولى. ارتباطه بالآخر الذي يسبق الإرادة والقرار. الأخلاق التي تسبق الحرية. الأب الذي يعتصر قلبه ألما بسبب فشل ابنه. الأب العاجز. الأب الذي يصبح جبانا حين يُنجب. التقنية في المقابل تعد بتحول جذري. تبديل التركيز هو الحل. استعادة للفعالية والتحكّم. ركّز على الولد الصالح بدلا من الولد الطالح. تم حل المشكلة. الحل في رأسك: في اهتمامك في تركيزك. العالم في دماغك. إذا كان الجوال يعطيك عدد من الخيارات السحرية التي تمكنك من التحكم في عالمك داخل هذا الجوال، فإن المنطق هذا، منطق التكنولوجيا، يتمدد بشكل عجيب ليمتد للعالم الخارجي. الصديق المزعج تخلص منه. الزوجة المزعجة تخلص منها. علاقات سامة. الطلاق أصبح قرارا الكترونيا الان. في السابق كان يمر من خلال وسيط اجتماعي. الآن من الذهن مباشرة. المطلوب قرار ذهني فقط والتكنولوجيا كفيلة بتحوّل ما في الذهن إلى واقع.
نلاحظ كذلك أن الآخر، الطرف الثاني في العلاقة، يبدو هامشيا وقابلا للاستبدال. بعيد جدا لدرجة أن آثار فعل الذات عليه لا تحضر في الحسبة. التقنية، وسيلة التواصل هذه، حجبت وجه الآخر. انفعالاته وردود فعله بعيدة جدا يمكن حجبها بخيار فردي على بُعد نقرة واحدة على الشاشة التي تمسك بها الكفّ. نحن الآن في درجة أعلى من أثرٍ كنا قد لاحظناه سابقا مع السيارات. نلاحظ أن سلوك الإنسان وهو يقود السيارة في الزحام يختلف عن سلوكه في اللقاء المباشر معه. في السيارة لا يرى الإنسان وجه الآخر مما يجعل سلوكه يتمدد دون الإحساس بأثر هذا السلوك على الآخر. يصرخ قائد السيارة ويشتم وكأنه وحيدا رغم أنه محاط بالناس. من طرق التربية الأخلاقية للأطفال مساعدتهم على الاتصال بآثار أفعالهم على الآخرين. حين يستولي طفل على لعبة طفل آخر فإنه من المهم أن يتصل بتأثير فعله هذا على الطفل الآخر. ينظر لوجهه ليرى دموعه أو يستمع لكلماته ليتصل بمشاعره. هنا تنمو مشاعر التعاطف والرحمة وتتشكل شخصية الإنسان الأخلاقية. وفرت التقنية الحديثة إمكانية حجب وجه الآخر رغم كل توغلها في الحياة الخاصة.
غياب الآخر لا يعني بالضرورة اختفاؤه من المشهد ولكنه قد يغيب حتى ولو كان حاضرا إذا تم التعامل معه كموضوع لإرادة الذات، كشيء يتم التصرف به أو اتخاذ قرار بشأنه وهذا أصبح أسهل بكثير مع تقنيات التواصل الحديثة. إعلان الجوال يجعل الحل في تبديل التركيز. إذا كان التركيز على الابن الأول يسبب الألم فالحل هو التركيز على الابن الثاني. وفي ذات المنطق يمكن الوصول إلى أن الحل في التركيز على الصديق الإلكتروني الذي أصبح على مشارف القرية الكونية مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي. وللحديث بقية عن وجود الإنسان في عالمنا الالكتروني المعاصر.
المصدر: العربية