صناعة الشهرة

عمر غازي
قبل أكثر من عقدين، كانت الشهرة امتيازًا يُمنح لمن يحقق إنجازًا حقيقيًا، سواء في العلم أو الأدب أو الرياضة أو حتى الترفيه، أما اليوم، فقد أصبح الوصول إلى الأضواء متاحًا لمن يتقن فن إثارة الجدل، أو حتى لمن يمتلك قدرة على استغلال خوارزميات المنصات الرقمية لصالحه، فلم يعد الأمر مرتبطًا بالكفاءة أو القيمة بقدر ما أصبح مرتبطًا بالقدرة على جذب الانتباه، مهما كان المحتوى الذي يُقدم.
في دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2022، تبين أن 68% من المشاهير الجدد على وسائل التواصل الاجتماعي لم يصلوا إلى الشهرة بسبب إنجازاتهم، بل بسبب قدرتهم على استغلال الترندات والتفاعل مع الأحداث الجارية بطريقة تلفت الانتباه، وهذا يعكس التحول العميق الذي شهدته معايير الشهرة، حيث أصبح المحتوى السطحي والعناوين المثيرة أكثر جاذبية من أي مجهود حقيقي، وهذا يفسر كيف يمكن لشخص أن يصبح “مؤثرًا” بين ليلة وضحاها دون أي إضافة حقيقية.
الظاهرة لا تقتصر على العالم الغربي، بل تمتد إلى العالم العربي، حيث أصبح صانعو المحتوى يتنافسون على إثارة الجدل أكثر من تقديم محتوى مفيد، وفقًا لتقرير صادر عن شركة Ipsos عام 2023، فإن 75% من الفيديوهات الأكثر مشاهدة في المنطقة العربية تعتمد على الإثارة والسخرية أكثر من اعتمادها على القيمة الفعلية، مما يعكس أن الجمهور نفسه أصبح جزءًا من هذه المعادلة، حيث ينجذب للدراما أكثر مما ينجذب للمحتوى الجاد، لكن هذا لا يعني أن المحتوى الجاد محكوم عليه بالاندثار، بل إن الجمع بين الترند والمحتوى الحقيقي قد يكون هو الحل.
في دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2021، تبين أن 52% من صناع المحتوى الذين استطاعوا تحقيق شهرة مستدامة هم أولئك الذين نجحوا في دمج المحتوى المعرفي مع أسلوب ترفيهي أو تفاعلي يتماشى مع الترند، حيث أن السر لا يكمن فقط في ما يتم تقديمه، بل في كيفية تقديمه، فأفضل صناع المحتوى التعليمي على يوتيوب وتيك توك هم أولئك الذين استطاعوا تقديم المعلومة بطريقة جذابة تجعل الجمهور متفاعلًا دون أن يشعر بالملل، وهذه الاستراتيجية هي ما أطلق عليه الباحثون “التعلم غير المباشر”، حيث يستهلك الجمهور المعرفة دون أن يدرك أنه يخوض تجربة تعليمية.
لكن لماذا لا يسلك الجميع هذا المسار؟ ببساطة، لأن صناعة المحتوى الجاد تحتاج إلى جهد مضاعف مقارنة بالمحتوى السريع، فبحسب تقرير صادر عن منصة Think with Google عام 2022، فإن الفيديوهات التي تجمع بين الطابع التعليمي والترفيهي تحتاج إلى إنتاج أكثر احترافية، ووقت تحضير أطول، لكنها في المقابل تحقق معدل بقاء أعلى بنسبة 70% من المحتوى السريع الذي يعتمد فقط على الإثارة، مما يعني أن الجمع بين الترند والمحتوى الحقيقي ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب إبداعًا حقيقيًا يتجاوز مجرد استغلال الأحداث الساخنة لتحقيق مشاهدات سريعة.
ويبقى السؤال الأهم: هل سيظل الناس يحتفلون بالمحتوى الذي يثير الجدل، أم أن لحظة الوعي ستأتي حين يدركون أن الشهرة التي لا تستند إلى قيمة حقيقية هي مجرد ضوضاء لا أكثر؟ وهل يستطيع صناع المحتوى أن يخلقوا معادلة توازن بين ما يجذب الانتباه وما يضيف قيمة حقيقية؟ أم أن طبيعة العصر الرقمي ستظل تفرض معايير تجعل الضجيج هو سيد المشهد؟