العمر ليس بعدد السنوات

عمر غازي
في عام 2015، وقف هاروكي موراكامي، الكاتب الياباني الشهير، أمام حشد من الصحفيين ليسأله أحدهم: “كيف أصبحت كاتبًا عالميًا؟ هل كنت تكتب منذ صغرك؟”، ضحك موراكامي وأجاب: “لم أكتب حرفًا واحدًا حتى بلغت التاسعة والعشرين، كنت أملك مقهى وأقضي وقتي في إعداد القهوة والاستماع لموسيقى الجاز”، لم يكن الأمر تخطيطًا مسبقًا أو موهبة مبكرة، لكنه في أحد الأيام، بينما كان يشاهد مباراة بيسبول، شعر فجأة أنه يستطيع كتابة رواية، وفي تلك اللحظة، بدأ كل شيء.
هذه القصة ليست استثناءً، بل هي قاعدة تتكرر مع كثير من الناجحين، فالأمر ليس بعدد السنوات التي تعيشها، بل بما تملأ به تلك السنوات، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020 أن 80% من الأشخاص الأكثر تأثيرًا عالميًا لم يبدأوا مسيرتهم الفعلية إلا بعد سن الثلاثين، بينما أظهرت دراسة مماثلة من جامعة ستانفورد أن 60% من رواد الأعمال الناجحين أسسوا شركاتهم بعد سن الأربعين، مما يعني أن النجاح لا يرتبط بالزمن، بل بكيفية استثماره.
حين ننظر إلى التاريخ، نجد أمثلة تؤكد هذه الحقيقة، فـليوناردو دافنشي لم يرسم لوحته الأشهر الموناليزا إلا في عمر 51 عامًا، وكولونيل ساندرز أسس سلسلة كنتاكي بعد أن تجاوز الخامسة والستين، بينما ستيف جوبز عاد ليغير مستقبل التكنولوجيا بعد أن طُرد من شركته في الأربعينيات من عمره، هذه الأسماء لم تحسب حياتها بعدد الأيام، بل بمقدار الأثر الذي تركوه وراءهم.
لكن لماذا يعتقد البعض أن العمر مجرد أرقام؟ ببساطة، لأن المجتمع مهووس بالزمن، نعيش في عالم يُقاس فيه كل شيء بالعمر، متى يجب أن نتخرج، متى يجب أن نتزوج، متى يجب أن نحقق النجاح، وكأن الحياة سباق زمني وليس رحلة ذاتية، وهذا التفكير يخلق إحباطًا لمن لم يحقق أهدافه في “الوقت المتوقع”، فبحسب تقرير صادر عن منظمة الصحة العالمية عام 2022، فإن 45% من الأشخاص الذين يعانون من القلق المزمن يرتبط قلقهم بضغط المجتمع حول الإنجاز في سن معينة، وكأن العمر هو الحاكم الوحيد لقدرة الإنسان على النجاح.
لكن في الواقع، الزمن ليس خصمًا، بل هو أداة، فالذين يدركون أن كل يوم هو فرصة جديدة هم من يصنعون الفرق، حيث أثبتت دراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2021 أن الأشخاص الذين يعيدون تعريف مساراتهم المهنية بعد الأربعين يحققون معدلات رضا أعلى بنسبة 30% من أولئك الذين يتبعون المسار التقليدي، مما يثبت أن العمر ليس حاجزًا، بل قد يكون فرصة للبدء من جديد.
المجتمعات التي تربط النجاح بسن معين تحرم نفسها من إمكانيات لا نهائية، فالتجربة والإنجاز هما ما يُشكلان القيمة الحقيقية للإنسان، لا عدد الشموع التي تُطفأ في كل عيد ميلاد، ويبقى السؤال: هل نقيس حياتنا بعدد الأيام التي مرت، أم بعدد الأيام التي عشناها حقًا؟