الهروب من الحب

عمر غازي
في عام 1986، أسس عالم النفس الشهير جون غوتمان وزميله روبرت ليفنسون مختبرًا فريدًا في جامعة واشنطن، أطلقا عليه اسم “مختبر الحب”، حيث لم يكن الهدف مراقبة الأزواج بحثًا عن لحظات الرومانسية أو الانسجام، بل دراسة التوترات الصامتة، لغة الجسد غير المعلنة، وتلك اللحظات التي تسبق الانفصال، باستخدام كاميرات دقيقة وأجهزة استشعار تراقب معدل ضربات القلب ودرجة حرارة الجلد، كان الباحثون قادرين على تحليل كيفية تفاعل الأزواج مع بعضهم البعض، ليكتشفوا أمرًا صادمًا: بعض الأشخاص لا يتحملون أن يكونوا محبوبين، بل يدمرون حب الآخرين لهم كما لو أن الحب قيد خانق وليس نعمة.
الظاهرة ليست مجرد حالات فردية، بل تمتد إلى العلاقات الزوجية، والصداقات، وحتى الروابط العائلية، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2021 أن 63% من الأشخاص الذين انفصلوا عن شركائهم لم يكن السبب خيانة أو عنفًا، بل شعورًا غامضًا بعدم الاستحقاق، وكأن الحب الذي يُمنح لهم “أكثر مما يستحقون”، مما يدفعهم لا شعوريًا إلى تخريب العلاقة، فعندما يُمنح لهم الحب دون شروط، يشعرون بالخوف وكأنهم في اختبار دائم قد يفشلون فيه، أو أن هذا الاستقرار العاطفي مصيدة قد يفقدون فيها أنفسهم.
الأمر لا يرتبط فقط بالشعور بعدم الاستحقاق، بل بالخوف من الاعتماد على الآخر، فالأشخاص الذين نشأوا في بيئات غير مستقرة غالبًا ما يرون في الحب فخًا أكثر من كونه ملاذًا، فبحسب تقرير صادر عن جامعة هارفارد عام 2020، فإن الأفراد الذين تربوا في أسر مفككة يكونون أكثر عرضة بنسبة 70% لتخريب العلاقات المستقرة، وكأن الأمان العاطفي شعور غير مألوف لديهم، فيصبح الحب الذي لا يحتاج إلى مجهود أو معاناة أمرًا مقلقًا لهم، فيخلقون المشاكل حيث لا توجد، أو يتحولون إلى أشخاص سامّين، كل ذلك بدافع اللاوعي، خوفًا من الانكشاف العاطفي.
لكن هل نحن مبرمجون على رفض الحب حين يأتي بسهولة؟ ربما يكون الأمر متعلقًا بالمجتمع أكثر مما هو بالفرد، فالثقافة السائدة في كثير من المجتمعات تعلّم الناس أن الحب يتطلب تضحية وألمًا، وأن العلاقات العاطفية يجب أن تكون مليئة بالتحديات حتى تستحق، فبحسب دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عام 2019، فإن 52% من الأشخاص يعتقدون أن الحب الذي يأتي دون معاناة هو حب زائف أو مؤقت، مما يعني أن البعض قد يدمر علاقته فقط ليختبر مدى قوتها، وكأنه لا يؤمن بأن المشاعر يمكن أن تكون صادقة دون المرور بحروب عاطفية.
لكن السؤال الأهم: كيف نتوقف عن تدمير الحب الذي نتلقاه؟ الإجابة قد تبدو بسيطة، لكن تنفيذها أصعب، تبدأ بالوعي بأن هذه المشاعر ليست دليلًا على عدم الاستحقاق، بل انعكاس لتجارب ماضية لم يتم التصالح معها، تبدأ بتغيير القناعة بأن الحب لا يجب أن يكون معركة، بل مساحة آمنة للنمو المشترك، وتبدأ بفهم أن الشك في النوايا حين يكون بلا سبب قد يكون مجرد قناع لمخاوف غير حقيقية، لكن هل يستطيع الجميع تجاوز ذلك؟ أم أن بعض الناس محكوم عليهم بالهرب من الحب مهما حاولوا؟