غرف الصدى.. حينما يصبح الوعي سجينًا

عمر غازي
في عام 2016، أجرى باحثون في جامعة ستانفورد تجربة على مجموعة من مستخدمي الإنترنت، حيث قاموا بمتابعة المحتوى الذي يتعرضون له يوميًا عبر منصات التواصل الاجتماعي، النتائج كانت صادمة، إذ تبين أن أكثر من 80% من المستخدمين لا يرون إلا الأخبار والمعلومات التي تتماشى مع قناعاتهم المسبقة، وكأن الإنترنت أصبح مرآة تعكس ما يريدون تصديقه فقط، لا ما هو حقيقي، هذه الظاهرة التي تُعرف بـ”غرف الصدى” تعني أن الشخص يعيش في دائرة مغلقة من المعلومات التي تعيد تأكيد آرائه وتوجهاته دون أن تمنحه فرصة للتفاعل مع وجهات نظر أخرى، مما يجعله أكثر انغلاقًا وأقل قدرة على التفكير النقدي.
مصطلح “غرف الصدى” ليس مجرد تعبير مجازي، بل هو واقع تدعمه الخوارزميات الذكية التي تتحكم في المحتوى الذي يظهر للمستخدم، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة أكسفورد عام 2021 أن 72% من مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي يتلقون الأخبار والمعلومات من مصادر تتفق مع آرائهم فقط، مما يعزز لديهم إحساسًا زائفًا بأن وجهة نظرهم هي الحقيقة المطلقة، في حين أن أي رأي مخالف يُنظر إليه على أنه تهديد أو تضليل، وهكذا، يتحول الإنترنت من مساحة لتبادل المعرفة إلى سجن فكري يُحكم إغلاقه كلما زاد تفاعل المستخدم مع المحتوى الذي يؤيد قناعاته.
هذا النمط من الاستهلاك المعرفي لا يخلق فقط أفرادًا أكثر تعصبًا، بل يجعل المجتمعات أكثر استقطابًا، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022 أن الانتشار المتزايد لغرف الصدى على الإنترنت أدى إلى زيادة حدة الانقسامات الأيديولوجية والسياسية بنسبة 40% خلال العقد الأخير، فالناس لم يعودوا يناقشون الأفكار أو يحاولون فهم الآخرين، بل باتوا يبحثون عن أي دليل -حقيقي أو زائف- لتبرير مواقفهم، وهذا يفسر كيف أصبح من الصعب اليوم إجراء حوارات عقلانية حول القضايا الكبرى، لأن كل طرف مقتنع بأنه يمتلك الحقيقة المطلقة، في حين أن كل ما يراه هو مجرد انعكاس لمعتقداته المسبقة، لا الواقع الفعلي.
ولكن كيف تعمل غرف الصدى؟ السر يكمن في الخوارزميات التي تستخدمها منصات مثل فيسبوك، يوتيوب، وإنستغرام، فوفقًا لتقرير صادر عن مركز بيو للأبحاث عام 2023، فإن هذه الخوارزميات تقوم بتحليل تفاعل المستخدم مع المحتوى، ثم تقدم له المزيد من المواد المشابهة لما يفضله، مما يؤدي إلى تضييق نطاق المعلومات التي يتعرض لها، وبالتالي، كلما قضى الشخص وقتًا أطول على هذه المنصات، زاد تعمقه في قناعاته السابقة، وأصبح أقل عرضة لسماع أي وجهة نظر مغايرة، هذه الآلية لا تهدف إلى تثقيف المستخدم أو منحه رؤية متوازنة، بل إلى إبقائه على المنصة لأطول وقت ممكن، لأن ذلك يزيد من أرباح الشركات المالكة لهذه الوسائل.
التأثيرات النفسية لغرف الصدى لا تقل خطورة عن تأثيراتها الفكرية، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2020 أن الأشخاص الذين يعيشون داخل هذه الدوائر المغلقة يعانون من مستويات أعلى من القلق والتوتر عند مواجهة معلومات تعارض قناعاتهم، لأن عقولهم لم تعتد على التعامل مع الرأي المخالف، بل أصبحت مبرمجة على رفضه فورًا دون تحليل، وكأنهم محاطون بجدار غير مرئي يحميهم من أي فكرة جديدة، حتى لو كانت أكثر منطقية مما يؤمنون به.
في ظل هذا الواقع، يصبح من الضروري كسر هذه الدائرة المغلقة، فالتفكير النقدي لا يمكن أن ينمو داخل غرف مغلقة، بل يحتاج إلى التعرض لوجهات نظر متعددة، ومراجعة المعلومات من مصادر مختلفة، وهذا لا يعني التخلي عن القناعات الشخصية، بل اختبارها في ضوء الحقائق لا في ظل الأوهام، والسؤال الذي يفرض نفسه: هل نحن نبحث عن الحقيقة فعلًا، أم أننا نبحث فقط عما يجعلنا نشعر أننا على حق؟