عقلك.. مرآة اختياراتك
عمر غازي
في إحدى محاضراته، قال عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس: “ما تفكر فيه اليوم، ستكون عليه غدًا”، عبارة تبدو بديهية، لكنها تحمل في طياتها الحقيقة الأكثر تأثيرًا في حياة الإنسان، فالعقل ليس مجرد مستودع للأفكار، بل هو التربة التي تنبت فيها حياتك بالكامل، كل كلمة تسمعها، كل شخص تجالسه، كل معلومة تقرأها، تشكل لبنة في بناء فكرك، حتى دون أن تدرك ذلك، فالواقع الذي تعيشه ليس سوى انعكاس لما اخترت أن تغذي به عقلك على مدار السنين.
في دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2021، أظهرت النتائج أن 87% من الأفراد الذين يتعرضون بشكل مستمر لأخبار سلبية أو محادثات محبطة، يطورون مع الوقت نظرة متشائمة للحياة، حتى لو لم يكونوا كذلك في البداية، بينما الأشخاص الذين يحيطون أنفسهم بمصادر إلهام وتحفيز، ترتفع لديهم معدلات التفاؤل والإنتاجية بنسبة تصل إلى 65%، مما يؤكد أن العقل البشري يتكيف مع ما يحيط به، سواء كان ذلك طاقة إيجابية أو سلبية.
لكن المشكلة أن معظم الناس لا يدركون هذا التأثير إلا بعد فوات الأوان، فهم يستهلكون يوميًا جرعات هائلة من المعلومات دون تصفية أو انتقاء، مواقع التواصل، نشرات الأخبار، الأحاديث العشوائية، كلها تتسلل إلى عقولهم دون استئذان، تشكل قناعاتهم، توجه قراراتهم، بل وتحدد مستوى سعادتهم أو تعاستهم، في دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2019، تبين أن الأشخاص الذين يقضون أكثر من 4 ساعات يوميًا في تصفح الأخبار السلبية يعانون من مستويات أعلى من القلق بنسبة 73% مقارنة بمن يحدّون من استهلاكهم للمحتوى السلبي، وكأن العقول تصاب بالتلوث تمامًا كما تصاب الأجساد بالأمراض عند التعرض للبيئة الملوثة.
الخطورة لا تكمن فقط في التأثير المباشر للمعلومات، بل في التراكم، فكرة واحدة خاطئة قد تتغلغل إلى وعيك دون أن تلحظها، لكنها تتحول مع الوقت إلى قناعة راسخة تؤثر على قراراتك وسلوكك، تخيل أن تستمع بشكل متكرر إلى من يخبرك بأن النجاح يتطلب “حظًا أكثر من الجهد”، بعد فترة، ستبدأ في تصديق ذلك، فتقلّ محاولاتك، وتبرر فشلك بسوء الحظ بدلًا من البحث عن حلول، بينما لو كنت محاطًا بأفكار تؤمن بأن الاجتهاد هو مفتاح النجاح، ستتصرف وفق هذه الفكرة حتى دون وعي كامل منك، فالعقل يعمل كعدسة يرى من خلالها الإنسان العالم، وإذا كانت العدسة مشوشة، فإن الصورة بأكملها ستكون مشوهة.
لكن السؤال الأهم: كيف يمكن حماية العقل وسط هذا الطوفان من المعلومات والتأثيرات؟ الأمر لا يتعلق بعزل نفسك عن العالم، بل بامتلاك وعي انتقائي، وعي يدرك أن كل ما تستمع إليه أو تقرأه له تأثير طويل المدى، في تقرير نشره معهد ماكينزي عام 2022، أظهرت النتائج أن الأشخاص الذين يتبنون عادات معرفية انتقائية – كقراءة كتب محفزة، وتجنب النقاشات العقيمة، والحد من استهلاك الأخبار السلبية – يتمتعون بنسبة رضا عن حياتهم أعلى بـ 62% مقارنة بمن يستهلكون كل شيء دون تصفية.
العقل هو أثمن ما يملكه الإنسان، لكنه أيضًا الأكثر عرضة للتشويه إذا لم نحمه، الحماية الحقيقية لا تأتي من العزلة، بل من الفلترة، من وعيك بما تسمح له بالدخول إلى رأسك، فإما أن تختار ما يغذي فكرك ويدفعك للأمام، أو تترك نفسك فريسة للضوضاء التي تسرق منك وضوح الرؤية، في النهاية، عقلك ليس مجرد مستهلك للمعلومات، بل هو انعكاس مباشر لاختياراتك، وما تختاره اليوم، هو ما ستكون عليه غدًا.