كُتاب الترند العربيعمر غازي

التقدير المفقود

عمر غازي

كان رجل في منتصف العمر يعمل بجد في وظيفته اليومية، يعود إلى منزله كل مساء وقد أُنهك من ساعات طويلة قضاها يحاول إرضاء مديره وزملائه، لكنه، في النهاية، يجلس وحيدًا، متسائلًا: “أين كلمات الشكر؟ هل يرى أحد ما أفعله؟” هذا المشهد ليس مجرد حالة فردية، بل هو مرآة تعكس معاناة الكثيرين الذين يشعرون أن ما يقدمونه يضيع في زحمة الحياة دون أن يلاحظه أحد.

غياب التقدير ليس مجرد إحساس مؤقت بالخذلان، بل هو شعور عميق بالجحود يتسلل إلى أعماق النفس، فيحول الإنجاز إلى عبء، والعطاء إلى ألم، فالإنسان بطبيعته يبحث عن القبول والاعتراف، ليس من باب الغرور، بل لأنه يرى في التقدير دليلًا على وجوده وقيمته، وعندما يُترك بلا تقدير، يبدأ هذا الشعور بالتآكل، يضعف عزيمته، ويجعل من الصعب عليه الاستمرار في العطاء.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2019، فإن 73% من الموظفين الذين يشعرون بأن جهدهم لا يُقدّر يفقدون الحماس للعمل بشكل تدريجي، بينما أظهر 85% من الأشخاص الذين تلقوا اعترافًا بجهودهم تحسنًا في الأداء وزيادة في الإنتاجية، وهذا ليس مجرد تحليل إحصائي، بل هو انعكاس لحاجة الإنسان العميقة إلى أن يُرى ويُسمع.

المشكلة لا تقتصر على مكان العمل، بل تمتد إلى العلاقات الشخصية، فكم مرة يجد أحدنا نفسه يقدم الحب والدعم بلا مقابل، أو يعاني من صمت الآخرين في وقت يحتاج فيه إلى كلمة تقدير؟ العلاقة بين الأفراد ليست مجرد تبادل للمشاعر، بل هي انعكاس لاحترام الجهد المبذول فيها. غياب التقدير في العلاقات يخلق فجوة خفية، لكنها تزداد اتساعًا مع الوقت، حتى تصبح عبئًا على النفوس.

وفي تجربة اجتماعية أجرتها جامعة هارفارد، طُلب من مجموعة من الأشخاص كتابة رسائل شكر لأصدقائهم وأفراد عائلاتهم، وأظهرت النتائج أن كلا الطرفين شعر بتحسن كبير في حالتهم العاطفية، حيث أصبح المُرسِل يشعر بأنه قادر على التعبير، والمُستَقبل يشعر بتقدير حقيقي، فالتقدير ليس فقط حاجة، بل هو أيضًا دواء يداوي الكثير من الجروح النفسية.

لكن لماذا نجد صعوبة في تقديم التقدير؟ ربما لأننا نعيش في عالم أصبحت فيه السرعة والإنجاز المادي أهم من العلاقات الإنسانية، فللكلمات البسيطة التي تحمل شكرًا أو اعترافًا باتت تضيع في زحمة التحديات اليومية، وكأنها ترفٌ لم يعد أحد يجد الوقت له.

لكن، هل يمكننا تغيير هذه المعادلة؟ هل يمكن للتقدير أن يعود إلى مكانه الطبيعي كجزء أساسي من التواصل الإنساني؟ الجواب ربما يكمن في التذكير الدائم بأن التقدير ليس شيئًا يُطلب، بل هو شيء يُمنح دون مقابل.. أن تقدر شخصًا يعني أن تقول له: “أنا أراك، وأرى ما تفعله، وأعترف بقيمتك”، وهذا الاعتراف البسيط يمكن أن يكون الشرارة التي تعيد إحياء العزيمة وتحفز على العطاء.

يبقى السؤال: هل يمكننا كأفراد أن نبدأ بإظهار التقدير لمن حولنا دون انتظار مقابل؟ أم أننا، في زحمة الحياة، سنظل نكرر نفس الأخطاء، متناسين أن كلمة شكر قد تكون أثمن من أي مكافأة مادية؟ ربما يكمن التغيير في إدراكنا بأن التقدير، في جوهره، ليس مجرد كلمات تُقال، بل هو حياة تُمنح.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى