صراع الأجيال
عمر غازي
في عام 1968، اجتاحت فرنسا موجة من الاحتجاجات الطلابية التي عُرفت بالثورة الطلابية، حيث خرج مئات الآلاف من الشباب في الشوارع يطالبون بالحرية الفردية والتغيير الاجتماعي العميق، وتركزت الاحتجاجات في الجامعات والمصانع، حيث رفض الشباب القيم التقليدية التي اعتبروها عائقًا أمام طموحاتهم، منادين بالتحرر من القيود الثقافية والسياسية، مما أثار حفيظة الأجيال الأكبر التي رأت في هذه الحركات تهديدًا لاستقرار المجتمع والنظام الذي بنوه على مدار عقود.
كانت هذه الثورة تعبيرًا حيًا عن صراع الأجيال، فالجيل الأكبر، الذي عاش أهوال الحرب العالمية الثانية وأعاد بناء أوروبا، نظر إلى هذه الاحتجاجات كفوضى غير مبررة، بينما رأى الجيل الأصغر فيها فرصة لتحقيق العدالة الاجتماعية وكسر القيود، وهذا التباين بين الرؤيتين لم يكن مجرد اختلاف في وجهات النظر، بل كان انقسامًا عميقًا بين الماضي والمستقبل، بين الحكمة المكتسبة من التجربة والطموح الجامح للتغيير.
هذه الواقعة ليست مجرد حدث تاريخي، بل هي انعكاس لما يُعرف بـ”صراع الأجيال”، حيث تتباين الأولويات والقيم بين الأجيال الأكبر سنًا التي تعتز بخبراتها وتجاربها، والأجيال الأصغر التي ترى في السرعة والتكنولوجيا اختصارًا لكل شيء.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020، فإن أكثر من 70% من الشباب يرون أن التكنولوجيا ضرورة لا يمكن التخلي عنها، بينما يرى 60% من كبار السن أن الاعتماد المفرط على التكنولوجيا يهدد القيم المجتمعية ويقلل من قيمة التفاعل الإنساني، وهذا التباين يعكس الفجوة المتزايدة بين جيلين؛ أحدهما يرى في الماضي حكمة وتجارب يجب التمسك بها، والآخر يسعى إلى التحليق بعيدًا عن تلك القيود، باتجاه المستقبل الذي يصنعه بنفسه.
لم يعد الصراع بين الأجيال يقتصر على اختلاف أسلوب الحياة، بل امتد ليشمل قضايا أعمق مثل نظرة كل جيل للعمل والنجاح، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا عام 2019 أن 80% من الشباب يؤمنون بأن الشغف الشخصي هو مفتاح النجاح، بينما يرى 65% من الأجيال الأكبر أن الاستقرار الوظيفي هو الخيار الأذكى، وهذا الخلاف في القيم يعكس حقيقة أن كل جيل يفسر النجاح وفقًا لتجاربه وظروفه، مما يزيد من صعوبة بناء حوار مشترك.
في جانب آخر، كانت التكنولوجيا الوقود الذي أشعل شرارة الصراع، لكنها أيضًا أعطت الأجيال الأصغر فرصًا لم تكن موجودة سابقًا، حيث كشفت دراسة من جامعة أكسفورد عام 2022 أن 90% من الشباب في سن العشرينات يعتمدون على الإنترنت في بناء شبكاتهم الاجتماعية والمهنية، مما ساهم في توسيع دائرة تأثيرهم بشكل غير مسبوق، لكن في المقابل، أظهرت الدراسة نفسها أن 55% من كبار السن يشعرون بالعزلة الرقمية لأنهم غير قادرين على مواكبة هذا التطور السريع.
القيم العائلية، أيضًا، لم تسلم من هذا الصراع، فالجيل الأكبر الذي نشأ على الالتزام العائلي يرى في تراجع التواصل الأسري مؤشرًا على الانحدار، بينما الجيل الجديد يرى أن بناء الذات يتطلب استقلالية أكبر، ففي دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2021 كشفت النتائج أن 68% من الشباب يعتبرون أن أولوياتهم الشخصية تأتي قبل الالتزامات العائلية، في حين يرى 75% من الجيل الأكبر أن الأسرة هي الأولوية الأولى التي يجب التضحية من أجلها.
لكن، هل يمكن تجاوز هذا الصراع؟ أم أنه جزء من دورة الحياة التي لا مفر منها؟ ربما يحمل كل جيل في داخله جزءًا من الحقيقة، وجزءًا من التحيز، فالماضي مليء بالحكمة التي لا يجب التفريط بها، والمستقبل يحتاج إلى الشجاعة والمرونة التي يجلبها الشباب.
وفي نهاية المطاف، يبقى السؤال: هل نحن أمام صراع لا نهاية له بين الماضي والمستقبل؟ أم أن هناك أملًا في أن يتحول هذا الصراع إلى تعاون، حيث يسهم كل جيل بخبراته وقدراته لبناء حاضر ومستقبل أفضل؟ ربما.. نظريًا يكون ممكن لكن شواهد الواقع تنبؤنا بالنقيض!