فيلم “المواطن مصري”.. من التجريد إلى التحديد في فن الاقتباس
رامي عبدالرازق
في عام 1978 أصدر الكاتب الشاب آنذاك يوسف القعيد روايته السياسية الناقدة “الحرب في بر مصر” التي سوف يتم اختيارها فيما بعد لتصبح الرواية رقم 4 في تصنيف أفضل 100 رواية عربية، حيث تدور أحداث الرواية في مصر عام 1973 ما بين شهري يونيو وأكتوبر، يونيو هو شهر الهزيمة وأكتوبر هو شهر النصر، وتقدم عبر تقنية رواية الأصوات قراءة ناقمة على واقع سوداوي يُضطر فيه شاب يُدعى مصري، ابن واحد من الخفراء الذين حصلوا على أرض وقت قانون الإصلاح الزراعي في مصر “توزيع أراضي كبار الملاك على الفلاحين من باب مشاركة الثروات عملًا بالمبادئ الاشتراكية”، أن يتقدم للتجنيد بدلًا من ابن العمدة كبير البلد “القرية” حتى لا يفارق الفتى المدلل أمه، وهي الزوجة الجديدة للعمدة بعد زيجتين حصل منهما على قبيلة من الأولاد الذين لم يشاركوا في دفع ضريبة الدم في أي مناسبة وقت أن طلبتهم السلطة!
وفي عام 1991 قدم المخرج صلاح أبو سيف “1996-1915” فيلم “المواطن مصري” المأخوذ عن الرواية وهو ما يمكن اعتباره فعليًّا آخر أفلامه بعد رحلة شديدة الزخم، حيث أخرج عام 94 فيلمًا خفيفًا بعنوان السيد كاف، أعد السيناريو والحوار الخاص بالرواية المخضرم محسن زايد “2003-1933” صاحب الرصيد البراق من تجارب الاقتباس للسينما والتليفزيون، الذي كانت بدايته مع أبو سيف نفسه في مطلع السبعينيات من خلال اقتباس الرواية الإيروتيكية “حمام الملاطيلي” لإسماعيل ولي الدين، ثم تلته تجربتهما الأعمق “السقا مات” 1977.
بين التجريد والتحديد
صاغ القعيد روايته من خلال أصوات ست شخصيات هي: “العمدة” أبو الفتى المطلوب تهريبه من التجنيد، و”المتعهد” الذي يشرف على هندسة عملية التهريب والتزوير، و”الخفير” أبو مصري المتقاعد وصاحب الأرض المنزوعة بعد سقوط قوانين الإصلاح الزراعي في عهد السادات، ثم “الصديق” وهو زميل مصري في الوحدة العسكرية الطبية الذي يكتشف شخصية مصري الحقيقة، ثم “الضابط” المنوط به تسليم جثة مصري، ويفجر قضية أن مصري استشهد في حرب أكتوبر وهو يحمل اسمًا آخر غير اسمه، اسم ابن العمدة الرأسمالي الطبقي الفاسد- وأخيرًا “المحقق” الذي يتولى القضية، ويُطلب منه صراحة من قبل مسؤول كبير أن يغلق الملف كي لا يفسد فرحة النصر العظيم! فلا يهم اسم من مات بل المهم إلى من سوف ينسب المجد. وحيث تدور الأحداث في “البلد” وهو لفظ تجريدي يشير إلى المكان الذي تدور فيه الأحداث والذي ربما كان قرية أو كفرًا صغيرًا، وإن كانت دلالة اللفظ في تجريديته تشير إلى المكان الأكبر والأشمل وهو مصر كلها.
تتميز روايات الأصوات بأنها ذات جاذبية سردية لا تخفت، فرواية حدث واحد من أكثر من وجهة نظر أو تتابع رواية الحدث عبر أكثر من صوت، وكانت الحكاية يتم جمعها من صدور الشخصيات أو من فوق ألسنتها وهو ما يعطي إحساسًا بعدم اليقين الكامل، حيث يتم عرضها عبر وجهات نظر الشخصيات المتعددة ورصد ردود أفعالهم على اختلاف علاقتهم بالموضوع “موت مصري وهو يحمل اسم ابن العمدة”، أضف إلى ذلك أن القعيد ذهب إلى ما هو أبعد من تعدد الأصوات ألا وهو كسر الإيهام، حيث تتحدث الشخصيات وهي واعية لحقيقة كونها تكتب كل منها فصلها في الرواية، وتدرك أن هناك من سوف يأتي بعدها ليكمل الحكاية وأن عليها أن تقول كل ما لديها من باب الأمانة والفضفضة والاعتراف. وهو ما يعطي النص كله نزعة تسجيلية واقعية، تلك النزعة هي التي منحته مرارة النقد الشديد، وحملت الرواية بروح متجددة، حيث تبدو كأنها مأساة تتكرر كلما تفاوتت الطبقات الاجتماعية نتيجة العوار المادي والاقتصادي في إدارة الثروات وعلاقتها بالسلطة والنفوذ دون غطاء قانوني وإنساني حقيقي ونافذ.
ما قدمه زايد في معالجته للنص اعتمد على ثلاثة عناصر:
الأول: التخلص من تقنية الأصوات المتعددة أو بمعنى أدق إذابة الأصوات المتتابعة داخل الفصول في صوت سردي واحد، أقرب لراوٍ عليم، يتحرك مع كل الشخصيات تقريبًا في الأماكن والاتجاهات، وذلك عبر مجرى زمني خطي واحد أيضًا، بلا أي قفزات للخلف أو للأمام، فلاش باك أو فلاش فورورد كما في الرواية.
العنصر الثاني: هو تحديد كل ما له علاقة بالحدث وورد ذكره بصورة تجريدية في الرواية، فالعمدة صار عبد الرازق الشرشابي، ودلالة اسم الرازق واضحة، والبلد صار اسمه الشرشابية على اسم عائلة العمدة، لما في هذا من إيحاء بالنفوذ والسلطة والامتلاك، والمتعهد أصبح اسمه حامد الشريف، وهو ليس شريفًا بالمرة، والخفير أطلق عليه السيناريست اسم عبد الموجود مصري، وهنا أيضًا دلالة الاسم ظاهرة فهي من الوجود، واسم الأب مصري على اسم الحفيد كأن دائرة الزمن تدور على من هم في طبقته وأمثاله، وصار اسم ابن العمدة توفيق، وهكذا تم تحديد كل الشخصيات التي سوف ترتبط بالحدث بصورة تجعل من السهل متابعتها على الشاشة والتعرف على أبعادها وتوظيفها ضمن سياقات العمق والدلالة الخاصة بالقصة.
أما العنصر الثالث فهو مبدأ “فتش عن المرأة”، حيث يضيف السيناريو شخصية فتاة تدعى هنادي، هي ابنة وكيل الجمعية الزراعية بالبلد “جهة حكومة مهمتها دعم المزارعين بالبذور والتقاوي والمعدات” وهو موظف حكومي شريف لكنه نموذج للبيروقراطية الفاقعة.
تلعب هنادي دور الحبيبة الشابة التي تمثل حلم مصري في التعليم والتحرر من أسر الواقع الفقير بالقرية من اجل أن يتزوجها، وهي الصفي الذي يجد مصري نفسه يكتب إليه وهو على الجبهة لأنها تمثل أجمل ما يربطه بالقرية، كما أنها تمثل تلك العلاقة التي تؤكد على أن الحب هو رفاهية مستحيلة بالنسبة لمصري وطبقته وأمثاله من الشباب وهو ما يزيد من سوداوية المعاناة التي تكابدها الشخصية، هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن وجود علاقة حب في حياة مصري تزيد من رقي مشاعره وشفافية شخصيته المنسحقة تحت وطأة الحاجة والفاقة والقحط الذي يعيش فيه هو وأسرته الصغيرة، حيث قام السيناريو بحذف ثلاثٍ من أخوات مصري ورد ذكرهم بالرواية واكتفي بأختين فقط.
الصور والبر
اختصر السيناريو في محاولته لتكثيف المجازات والخلفيات الواردة بالرواية العديد من المونولوجات الخاصة بالشخصيات وذلك عبر توظيف تقنيات الصورة وأكثرها وضوحًا هي استخدام الصورة الفوتوغرافية التي لا تعكس فقط تاريخ الشخصيات ولكن حاضرها ومستقبلها أيضًا، ففي بيت الخفير عبد الموجود، ذي الحيطان السوداء الكالحة، يضع السيناريو صورة للرجل وهو يتسلم عقد فدادين الأرض من عبد الناصر بعد صدور قوانين الإصلاح الزراعي، في مقابل صورة العمدة وهو يصافح السادات، التي تزين جدران بيته الملونة، هاتان الصورتان تكثفان من خلفية كل شخصية وموقفها الاجتماعي والسياسي، وترهص أيضًا بطبيعة الصراع الدائر بينهم، الذي ينسحق فيه عبد الموجود تمامًا، بعد رحيل عبد الناصر ونظامه من المشهد، وحضور السادات وأسلوبه في الحكم، الذي أطلق نفوذ طبقة العمدة بعد أن أعاد لهم ما سلبته حركة الجيش قبل 20 عامًا.
هنا يجب الإشارة إلى تركيز السيناريو على أن تلعب الأرض في مستواها المادي والمجازي البيئة الأساسية للحدث الرئيس، وهو تزوير هوية مصري فداء لابن العمدة وليس فداء للوطن، وهو ما استلهمه من عنوان الرواية (الحرب في بر مصر)، فالبر هي الأرض وفي المصطلح الشعبي البر هو المكان/ الوطن/ الجهة، ومعركة مصري الأساسية لم تكن فقط مع العدو الإسرائيلي في حرب أكتوبر، ولكن مع عدو الداخل الذي أدى تغير الأنظمة إلى توحشه فطالت أنيابه الطين والزرع الذي يعيشون منه «كثير من مشاهد عبد الموجود وابنه مصري نراها وهم يزرعون الأرض أو يفكرون كيف يمكن أن يدافعوا عنها»، وعندما يذهب مصري لتسلم هويته الجديدة عقب الاتفاق المخزي مع العمدة يشاهد ترحيل مجموعة المزارعين التي وقفت أمام قوة الشرطة التي جاءت لتنفيذ حكم استرداد الأرض، وفي الوقت نفسه يحاول والد حبيبته هنادي أن يطلب من المزارعين الذين استرد العمدة أرضه منهم أن يرفعوا قضية أمام المحاكم لأن هذا هو السبيل الوحيد لإعلان الضرر، في حين يعلم الكل أن حبال المحاكم طويلة ولن تصل بهم إلى نتيجة منصفة.
وحتى مع تفجر المشكلة في النهاية تصبح أزمة جثة الشهيد هي: أين الأرض التي سوف يدفن فيها؟ هل هي أرض أبيه الذي ضحى من أجل أن يظل جالسًا عليها، كما يقول له العمدة في النهاية-؟ أم أرض العمدة الذي يصر على استرداد كل ما سلبته إياه قوانين الإصلاح الزراعي -التي لن تزيد من اتساع أملاكه؟
المشهد الأخير تحديدًا يؤكد أن كل المجازات تتمحور حول الأرض/الوطن؛ فالعمدة يأتي متبخترًا على ظهر جواده في لقطة واسعة توحي بامتلاكه لزمام الأرض والأمور، بينما عبد الموجود يقبع في ظل الشجرة وحيدًا دون ابنه، ممسكًا ببضع ورقات ملونة هي مكافأة الاستشهاد التي أخذوا ابنه وأعطوه إياها بدلًا منه، ودون حتى أن يؤمن العمدة على تسجيل عقد الأرض كما طلب مصري كمقابل لفداء ابنه.
في حين يبقى السؤال الأهم، للنص والسيناريو، معلقًا في اللقطة الأخيرة، حين نرى النصب التذكاري للجندي المجهول حيث يظهر اسم مصري عبدالموجود على حائط النصب ثم يتم محوه ويكتب اسم توفيق عبدالرازق الشرشابي، وهو تكثيف بليغ وشعري وسياسي شديد القسوة والجمال في الوقت نفسه، بل يختصر عشرات الصفحات من الرواية. قام السيناريو بحذف فصل المحقق كاملًا، واكتفى بمشهد استجواب العمدة وعبدالموجود كما حذف مشهد المسؤول الكبير والرغبة في غلق ملف القضية، واكتفى باللقطة الأخيرة كي يبقى السؤال معلقًا: من الذي يستحق مجد الانتصار؟ اسم توفيق أم روح مصري؟!
المصدر: سوليوود