صناعة الفقر
عمر غازي
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2018، تبين أن الفقر ليس مجرد غياب للمال، بل هو نتيجة تراكمية لعدة عوامل مثل نقص التعليم، وضعف الخدمات الصحية، وانعدام الفرص الاقتصادية، وهذه العوامل مجتمعة تؤدي إلى حالة من الفقر الدائم، حيث يجد الفرد نفسه محاصرًا في دائرة لا يمكنه الخروج منها بسهولة، مما يحول الفقر -إن جاز التعبير- إلى صناعة معقدة تحكمها سياسات وتوجهات اقتصادية تصب في مصلحة فئة قليلة على حساب الغالبية.
من أبرز الأمثلة على ذلك إيران وفنزويلا، وهما دولتان غنيتان بالموارد الطبيعية، لكنهما تعانيان من مستويات عالية من الفقر نتيجة سوء الإدارة الاقتصادية والسياسات الحكومية غير الفعالة، حيث بلغت نسبة الفقر في إيران 30% وفقًا لتقرير صادر عن صندوق النقد الدولي عام 2021، رغم غناها بالنفط والغاز، أما في فنزويلا، فقد أظهرت دراسة من جامعة جونز هوبكنز عام 2022 أن 90% من السكان يعيشون تحت خط الفقر، على الرغم من امتلاك البلاد لثروات نفطية كبيرة، وهو ما يبرهن على أن غياب العدالة في توزيع الثروة وسوء الإدارة الاقتصادية يمكن أن يحول الموارد الطبيعية إلى لعنة بدلاً من نعمة.
ومن الأوهام التي تُروج لتبرير الفقر هو الادعاء بأن الزيادة السكانية هي السبب الرئيسي وراء تفشي الفقر، ولكن الحقيقة أكثر تعقيدًا من ذلك، حيث تعد الثروة البشرية في الواقع أحد عوامل الازدهار الاقتصادي، خاصة في الدول التي تستثمر في التعليم والصحة وتوفر فرص العمل، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2020. وعلى سبيل المثال، نجد أن دولًا ذات كثافة سكانية عالية مثل الصين والهند حققتا معدلات نمو اقتصادي مرتفعة نتيجة استغلال الإمكانيات البشرية وتوجيهها نحو التنمية. في المقابل، فإن العديد من الدول التي لا تعاني من زيادة سكانية، مثل اليونان وإيطاليا، لا تزال تعاني من مشاكل اقتصادية كبيرة بسبب انعدام الإدارة الرشيدة وانتشار الفساد، حيث يكلف الفساد الاقتصاد اليوناني حوالي 5% من الناتج المحلي الإجمالي سنويًا، وفقًا لتقرير منظمة الشفافية الدولية، بينما تواجه إيطاليا تحديات كبيرة بسبب الديون المرتفعة والبيروقراطية المعقدة التي تعيق الاستثمار والنمو.
أحد الجوانب الرئيسية لصناعة الفقر هو التوزيع غير العادل للموارد، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2019 أن البلدان التي تعتمد على نظم اقتصادية تعزز من الفجوة بين الأغنياء والفقراء تشهد معدلات أعلى من الفقر المستمر، وعلى النقيض من ذلك، نجد دولًا مثل سويسرا واليابان، وهما من الدول التي تتمتع بموارد طبيعية قليلة جدًا، لكنهما حققتا مستويات مرتفعة من الرفاهية الاقتصادية بفضل التركيز على التعليم، والابتكار، وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي، حيث تعد سويسرا من بين الدول ذات أدنى معدلات الفقر عالميًا، بنسبة لا تتجاوز 0.5%، وفقًا لتقرير البنك الدولي عام 2020، بينما نجحت اليابان في تقليص الفقر إلى أقل من 1% بفضل السياسات الاقتصادية المتوازنة.
إلى جانب ذلك، تلعب السياسات الحكومية دورًا كبيرًا في صناعة الفقر. عندما تضع الحكومات سياسات اقتصادية واجتماعية تهمل فيها حقوق الفقراء، فإنها تساهم بشكل مباشر في تكريس الفقر، فبحسب ما أظهرته نتائج دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2020 فإن البلدان التي تفتقر إلى شبكات الأمان الاجتماعي مثل التأمين الصحي العام، والتعليم المجاني، ودعم البطالة، تعاني من مستويات أعلى من الفقر المزمن، وهو يتضح بشكل جلي في معظم دول إفريقيا التي تعاني من نقص في الموارد الأساسية والسياسات الفعالة، حيث يعيش أكثر من 40% من السكان تحت خط الفقر، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة عام 2021.
الاستغلال الاقتصادي هو جانب آخر من جوانب صناعة الفقر، من خلال العمالة الرخيصة، والظروف غير الإنسانية للعمل، وتدني الأجور، وكلها ممارسات تُبقي العمال في حالة فقر مستمر. عادة ما تبحث الشركات العالمية الكبرى عن تعظيم الأرباح من خلال استغلال الفقراء في البلدان النامية بفرض شروط عمل غير عادلة، حيث كشفت دراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2021 أن الاستغلال في العمل هو أحد الأسباب الرئيسية وراء انتشار الفقر في الدول النامية، حيث تجد الكثير من الشركات في هذه الدول فرصًا لاستغلال العمالة الرخيصة بدون أي حقوق أو حماية، في المقابل، نجد أن الدول ذات الاقتصاد المرتفع مثل سويسرا واليابان تعمل على وضع تشريعات صارمة تحمي حقوق العمال وتضمن لهم بيئة عمل عادلة، مما يساهم في الحد من الفقر وتوفير مستوى معيشة كريم للجميع.
وفي تقديري الشخصي، فإن صناعة الفقر ليست مجرد حالة طارئة بل هي عملية ممنهجة تستدعي تفكيكها من خلال سياسات تكرس النزاهة وتحارب الفساد وتعزز العدالة الاجتماعية، للوصول إلى توزيع متوازن للثروة، وضمان حقوق الفقراء في الحصول على فرص حقيقية للخروج من دائرة الفقر، فالفقر ليس مجرد مشكلة اقتصادية فحسب بل هو أيضًا قضية اجتماعية وأخلاقية، فالمجتمعات التي تسمح بصناعة الفقر هي مجتمعات تفشل في توفير الفرص للجميع وتحقيق العدالة الاجتماعية، وعلى عكس ما قد يعتقده البعض، فالفقر ليس قدرًا محتوما، بل هو نتيجة لقرارات وإجراءات يمكن تغييرها إذا ما توفر الإرادة السياسية والاجتماعية لذلك.